بين الهرمل ولاهاي: الدم يستجلب الدم

الهرمل
تبرير القتل الذي لم يزل مستمرا، منذ اغتيال الشهيد رفيق الحريري حتى جريمة الهرمل، هو الذي يستجلب العنف. الدم يستجلب الدم، واللغة نفسها تنتقل من هذه الضفة الى الضفة الاخرى.

لا احد يستطيع ان يبرر اي جريمة، فكيف اذا كانت تستهدف مواطنين مدنيين كانوا في رحلة يومية لكسب رزقهم وقضاء حوائج يومياتهم الصعبة؟

ليست جريمة القتل الانتحاري في الهرمل جريمة عادية: انه القتل العاري، اي حين يصير القتل غاية بذاته، حين يصير جريمة صافية لا يعكر صفاءها ايّ شيء.

اذاً نحن امام شيء واضح، جريمة تستدعي الرد، واللجم والمحاصرة والخنق. فكيف لنا ان نواجه احتمالات تكرارها ولجم انتشار عدواها؟ وخنق عنق الافعى التي تمد برأسها نحو كل واحد منا ايّاً كان موقعه في الحياة والسياسة والاجتماع؟

واذا كنّا لا نزال نحتفظ بالحدّ الادنى من احترام الكرامة الانسانية في اجتماعنا الانساني، يقتضي الا نمرر الجريمة ايّا كانت، باعتبارها حدثاً مألوفاً في حياتنا السياسية والعامة. الجريمة عدوان على كل واحد منا، هي ليست عدوانا على القتيل، لأننا كلنا ضحاياها عندما نحاول تبريرها بعدم الاستنفار لمحاصرتها ووأدها.

لعلّ في المحاكمة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، التي نشهد اليوم انطلاقتها في الجريمة التي استهدفته ومن معه قبل تسع سنوات، ما يوفر لنا مراجعة لمسلسل القتل الذي افتتح باغتياله، وشهد سلسلة اغتيالات لسياسيين وامنيين ومواطنين عموماً.

تبرير القتل الذي لم يزل مستمرا، منذ اغتيال الشهيدالحريري حتى جريمة الهرمل، هو الذي يستجلب العنف. الدم يستجلب الدم، واللغة نفسها تنتقل من هذه الضفة الى الضفة الاخرى.

لا احد حاول ان يكون ابن الضحية او والده او والدته، وباتت الجريمة في سلوكنا وتعبيراتنا وجهة نظر خاضعة لمقاييس سياسية بليدة وجارحة بل قاتلة. لنراقب بهدوء كيف تعاملنا مع جريمة القتل او الاغتيال السياسي اذا كان يستهدفنا مباشرة، وماذا قلنا اذا كان الضحية خصما او في الطرف المقابل.

غير انّ الجرائم في بلادنا تنتصر علينا دائماً، تنتصر بالتبرير حينا، بتغطيتها حيناً آخر، بمنع العدالة من ان تأخذ مجراها في معظم الأحيان. عدم كشف الجريمة هو طريق مثالي لاستمرارها وتمددها وانتشارها، والعدالة ليست خيارا ناجزاً ينتظر ان نتخذه ونكمل حديثنا وسيرنا العادي، انه خيار مبدئي ومكلف، يتطلب نضالا وعملاً دؤوباً من اجل ان يتحقق بعضه. يكفي ان نقول اننا كلبنانيين اهملنا حق العدالة فينا، بل نبذناه في كثير من الاحيان، وجعلناه من انواع الترف الاجتماعي والثقافي، وشعارا غوغائيا لا نلامس منه غير الضوضاء.

في المحاكمة التي انطلقت في لاهاي ما يجب ان نعتبر منه. هو مشهد ينبّهنا الى فداحة ما ارتكبنا بحق العدالة في بلادنا. فكيف لا نثور على ان يستباح الناس في بلادنا، ولا نفكّر بأنّ ثمة حقوقا تقع على كل مواطن بألا يتهاون في تجاوز هذه الحقوق، لأنّ هذا الحق المنتهك سيظل منتهكا ان لم نتشبث بالعدالة. تلك التي لا تتحقق بغير الاصرار على كشف القاتل ومعاقبته. ان تمرّ الجريمة من دون كشف ومن دون عقاب، يعني ببساطة استمرارها. وكلما تهاونت القوى الفاعلة في المجتمع وفي السياسة وصولا الى مؤسسات الدولة وفي صلبها سلطة القضاء حيال تحقيق العدالة، كلما صارت الجريمة هي القاعدة.

محاكمة لاهاي التي تتم على الملأ، ووسط متابعة حقوقية وقانونية كفيلة بأن تكشف ايّ زيف في مسارها وآلياتها وطرق الاتهام والتحقيق، انها درس لنا جميعا وللمشكّكين منّا فيها. درس مفاده انّ هذه المحاكمة والتي ستمتد لسنوات على الارجح، لا تكشف عورة القضاء في بلادنا، ولا انتهاك العدالة المستمر فيها وحسب، بل تسأل كل واحد منا وفي مقدمنا قوى السلطة المستحوذة على الدولة: ماذا فعلتم من اجل العدالة في لبنان؟ ماذا فعلتم بالقضاء؟ غير دفعه نحو العجز والمحاصصة. ما هو جوابكم المقنع وانتم تتابعون درسا في معنى المحاكمة من لاهاي؟

سيقول بعضكم انها عدالة مشوهة… سأوافق سريعا على هذا الوصف… لكن هل لديكم بديلا غير كتم المحاكمة وطيّها أسوة بما سبقها ومالحقها؟ هل لديكم جواب يخفّف عن ذوي ضحايا الهرمل اليوم؟

السابق
هل بدأ حزب الله يعوّد جمهوره على الاعتراف باغتيال الحريري؟
التالي
السيد من لاهاي: المحكمة تفتقد الصدقية لعدم فتحها ملف شهود الزور