المسيحيون في طرابلس ليسوا مجرد تفصيل

المسيحيون في طرابلس
لا بد أن نعرف جميعاً أنّ إحراق مكتبة الأبونا ابراهيم سرّوج في طرابلس ليست فعلاً تعسّفياً ضد المسيحيين فحسب بل أيضاً ضدّ كل من يحب المدينة. ولا بد أن نعرف أن خطورة عدم فتح تحقيق شفّاف وعدم محاسبة المرتكبين ستكون بمثابة هزيمة، هزيمة كبرى لصورة طرابلس الّتي يمعن البعض في تدميرها بلا رحمة، هزيمة ستليها من دون شك هزائم أخرى.

لا أؤمن بأيّ شكل من الأشكال بالتقسيم الاجتماعي الطائفي للّبنانيين ولا أحب تصنيف الأشخاص بحسب معتقداتهم الدينية. لكن لا يمكن أن ينأى المرء بنفسه عن الواقع الذي نعيش فيه – أقلّه كي لا نتشبّه بسياسة النأي بالنفس للحكومة اللبنانية – ولا يمكن أن يغضّ النظر عن نسيج لبناني بطوائف متنوعة كانت هي إحدى ميّزاته وبلاءه في الوقت نفسه.
يعود تاريخ الوجود المسيحي في طرابلس إلى عقودٍ مضت ولكن نسبته شهدت انخفاضاً ملحوظاً منذ بداية السبعينات ومع امتداد الحرب الأهلية في لبنان. البعض هاجر إلى الخارج والبعض هجر المدينة إلى ضواحيها والمدن المسيحية القريبة منها كالكورة وزغرتا وباتت نسبة المسيحيين الذين كانوا يوماً ما يشكلون ربع سكّان المدينة لا تتعدّى الستة في المائة من الطرابلسيين.
“لولا مسيحية لبنان يا تيتا، ما كان في لبنان” كانت جدتي المتابعة للشؤون السياسية اللبنانية والدولية تقول لنا وهي تعدّد محاسن التنوّع. جدّتي التي إن نظرتُ إلى صورها القديمة وصور والدتي رأيتهنّ يلبسن فساتين قصيرة، هنّ النساء من صلب طرابلس. أذكر أيضاً جارتنا المسيحية وعائلتها “أم جاك” وأولادها بول وفانيا وطوني وآخرين. كنّا نعيش معاً تقريباً. إن تأخّرت أمّي في العمل، انتظرناها عند جيراننا. لم يكن هناك لا تكفيريين ولا إرهابيين ولا سلفيين والآن لا أعرف إن كانت جارتنا القديمة لا زالت في سكن الطفولة نفسه.
لا يحتاج المسيحيون في طرابلس لمن يدافع عنهم فهم أبناء المدينة، يعتبرونها مدينتهم تماماُ كالمسلمين هناك. ولكن في وجه هذه الأصولية المتغلغلة في الأسواق الداخلية والجبهات الخارجية، هذه الأصولية التي دفعت ولا تزال تدفع المدينة إلى الوراء، لا بد من أن يقول أحدهم شيئاً.
لا بد أن نعرف جميعاً أنّ إحراق مكتبة الأبونا ابراهيم سرّوج في طرابلس ليست فعلاً تعسّفياً ضد المسيحيين فحسب بل أيضاً ضدّ كل من يحب المدينة. ولا بد أن نعرف أن خطورة عدم فتح تحقيق شفّاف وعدم محاسبة المرتكبين ستكون بمثابة هزيمة، هزيمة كبرى لصورة طرابلس الّتي يمعن البعض في تدميرها بلا رحمة، هزيمة ستليها من دون شك هزائم أخرى.
طرابلس ليست قندهار ولا نريدها أن تكون كذلك، ولكن ما يحدث في خباياها من تحرّك ديني وتطرّف سيجعلها كذلك. هذا التطرّف ليس ولم يكن يوماً مدفوعاً بالحب للمدينة ولا الغيرة عليها إنّما هو تطرّف مرتبط بشبكة مصالح لا أكثر ولا أقلّ وهذا ما يغفل عنه من يُفترض أنّهم متتنوّرين.
التطرّف في طرابلس ليس غيرة على الدين فإنّ أحداً لم يمسّ هذا الدين بالسوء إنّما هو وسيلة للسيطرة على طرابلس، لفرض “الزعران” على أحيائها وللتعالي عليها. هو ليس شباباً متحمساً كما قال الشيخ سالم الرافعي، بل شباب مغسول الدماغ ومن يغسل دماغه هو هؤلاء الذين يدّعون معرفتهم بالدّين ويبخّون السموم الطائفية في عقول الشباب.
المسيحيون في طرابلس ليسوا مجرّد تفصيل لأنّهم أمل بأن تبقى هذه المدينة حيّة. أمّا أن يبدأ الاعتداء عليهم وأن يصبحوا هدفاً فهو جزء من خطّة لإخضاع المدينة كلّها – وهم ضمناً- إلى منطق أبي جهل والعصر الحجري. فلماذا لا تتمّ محاسبة من أحرق المكتبة يا نوّاب ووزراء المدينة؟ ألا يستحق تاريخ طرابلس الحافل أن تحاولوا الحفاظ عليه؟

السابق
فتح طريق الاوزاعي والسير سالك في الاتجاهين
التالي
جبهة النصره اعدمت 10 جنود سوريين