طبّ الأعشاب في لبنان ظاهرة مافياوية

طب الأعشاب

هو الدواء الذي تحوّل إلى داء. هي الأعشاب التي لا عداوة، في العادة، بينها وبين الطب، ولكنّها تصبح وصفة مرضية عندما تتحوّل إلى منتجات تسمّى طبّية أو تجميلية، وتنبت بعيداً من عيون الرقابة ومواصفات السلامة، فيصير العطّارون وعمالقة صناعة الأعشاب بمثابة عيادات نقّالة، يلجأ إليها اليائسون أو الباحثون عمّا يروَّج له على أنّه علاجات سحرية طبيعية، قادرة على اجتراح معجزات عجز عنها الطبّ الحديث.

 

«إعداد الخلطات والوصفات العشبية وبيعَها للمستهلك لا يخضع لمعايير وزارة الصحة ومؤسسات الغذاء والدواء «(ريشار سمّور)

 

 

يُعتبر طبّ الأعشاب أحد فروع الطب البديل، فيحلّ بخلطاته وعلومه وأدواته، مكان الجراحة والأشعة والعلاج الكيماوي والأدوية المصنّعة التي يوصي بها الطب التقليدي.

 

وقد ازدهر بشكلٍ لافت خلال الأعوام العشرة المنصرمة، على اعتبار أنّه أكثر أماناً من الحبوب المصنّعة والمواد الكيماوية، وذلك انطلاقاً من المبدأ الذي اعتمده أجدادنا بالتعامل مع الأعشاب كمصدر طبيعي وفعّال لعلاج الأمراض، ولا سيّما المستعصية منها. واللافت حاليّاً هو الرواج الواسع الذي تلاقيه الوصفات الطبّية المصنوعة من خلطات نباتية عشبية في أوساط العامّة، والإقبال الذي يزداد على شرائها يوماً بعد يوم.

 

وفي الوقت الذي ترى شريحة من الناس أنّه لا يمكن إنكار النتائج والنجاحات التي حقَّقها طبّ الأعشاب في ابتكار علاجات كثيرة للأمراض المستعصية والمزمنة، يشير البعض إلى خطورة هذا الملف نظراً إلى النتائج السلبية والأعراض الجانبية الخطيرة التي لحقت بعدد كبير من مستخدمي هذه المنتوجات العشبية وأودت بحياة بعضهم أحياناً كثيرة، الأمر الذي دفع بنقيب الأطبّاء السابق في لبنان شرف أبو شرف الى الإعلان أنّ “وراء الحملات الإعلامية، التي لا تتوقّف مُروِّجةً لطبّ الأعشاب، عملياتِ تبييض أموال تتمّ عبر تغطية أثمان برامج إعلانية على عدد من المحطّات التلفزيونية”.

 

وفي هذا الإطار، يقول الوزير ونقيب الأطبّاء السابق الدكتور ماريو عون لـ”الجمهورية”: “لقد كنت أوّل من طرح هذا الموضوع وأوّل من رفع دعوى لدى المدّعي العام ضدّ طبّ الأعشاب، وذلك احتجاجاً على السبل التي يتعاملون بها في لبنان مع هذا الطبّ”، لافتاً إلى أنّ “المواد التي تتضمّنها بعض هذه الأدوية، قد تتعارض مع أيّ دواء للقلب أو السكّري أو الشرايين، ما يهدّد حياة المرضى، وأذكُر منهم بيار ساسين عواد، الذي شغلَ خبرُ وفاته عن عمر يناهز الـ 48 عاماً، الأوساط الطبّية، نتيجة تناوله حبوباً من منتجات أحد نجوم تصنيع ما يُسمّى الأعشاب في لبنان”.

 

ويوضح عون أنّ “بيار كان يعاني داء السكّري، وفجأة قرَّر التوقّف عن تناول الدواء الذي وصفتُه له لأنّني كنت أعالجه، واستعاض عنه بـ”البوروجو” من الأعشاب، لفترة تعدّت الأشهر الخمسة. وبعد مرور عام على غيابه، اتّصل بي طالباً المساعدة، وقد وصل الى مستشفى الجعيتاوي في حال يرثى لها نتيجة توقّف كليتيه عن العمل. فالعقار الذي تناوله فتكَ بأنسجة جسمه جميعها ولا سيّما في الدماغ والوجه.

 

وعلى الأثر دخل في “كوما” لمدّة أيام ثمّ فارق الحياة”. وإذ يرفض عون تسمية المسؤولين عن هذا الواقع المأساوي، يكتفي بالقول: “الحقيقة جارحة… وتجدونها في وزارة الصحة”، داعياً المواطنين إلى “توخّي الحذر في التعاطي مع طب الأعشاب، خصوصاً من يعانون من أمراض شريانية أو ميتابوليكية أو السكّري.

 

ويجب دائماً إطلاع الطبيب المعالج الأساسي على الموضوع لتجنّب التطوّرات السلبية التي قد تطرأ”. ويلفت عون إلى أنّ “زين الأتات وأمثاله يشكّلون كارثة على المجتمع اللبناني، ولا يجوز لهؤلاء أن يكملوا مسيرتهم مدّعين التخصّص في الشأن الطبّي والأدوية والعقاقير، الأمر الذي يشكّل خطراً على الصحة العامة”.

 

زوجة بيار عواد التي ترفض التحدّث في الموضوع، تؤكّد أنّها بعد وفاة زوجها، تلقّت الكثير من الوعود بمحاسبة المسؤول عن هذا الدواء الذي أدّى إلى خسارتها رفيق دربها، “ولكن جميعهم كذبوا عليّ ولم يلتفت إليّ أحد، وما سمعته من المسؤولين بقي وعوداً في الهواء”.

 

تضيف: “كلّ ما رأيته هو أنّ مجلس النواب اللبناني أصدر قانوناً يمنع الإعلان على شاشات التلفزة لمنتجات الأعشاب، إلّا أنّ الدولة، بكلّ أركانها، لم تستطع تطبيقه. فما هي هذه الدولة التي كلّ ما تستطيع فعله هو ضبط الموتوسيكلات ومصادرتها؟”

 

وإذا كان بيار قد دفع حياته ثمن غلطة، فإنّ روجيه حنّا قد استلحق نفسه ونجا من هذا المصير. ويقول: “تعلّمت من هذه التجربة المُرّة درساً لن أنساه أبداً، والآن أكتفي بالأدوية التي يصفها لي طبيبي”. وكان حنّا تشجّع على تناول أحد أدوية الأعشاب، إثر مرور إعلان متكرّر له في وسائل الإعلام.

 

ويوضح: “إشتريته لأنّه بحسب الاعلان يساعد على معالجة أمراض القلب، وأنا أعاني نشافاً في شرايين القلب. ووظيفة هذا العشب، بحسب ما يقولون في الإعلان، فتح الشرايين وإزالة الدهون منها”. ويشرح حنّا: “لقد قمت بغلي هذا العشب وشربته نحو ستّ مرّات. وكانت النتيجة دخولي المستشفى لمدة أسبوع، حيث عانيتُ ضيقاً شديداً في التنفّس”.

 

أمّا ريتا طانيوس فقد لجأت إلى استعمال أحد الأدوية من صنع الأعشاب التي يروّج لها على أنّها تساعد على خسارة الوزن وتؤدّي إلى قطع الشهية. وما إن تناولته على مدى يومين، حتى انتكست صحتها. وتؤكّد في هذا السياق، أنّه “ليس من الضروري مطلقاً أن يخاطر أيّ إنسان بصحّته ويتناول خلطات لا ندري ما هي”.

 

وإذ تلفت إلى “أنّني تعاملت مع ما يسمّى بالمستحضرات الطبّية، من دون التأكّد من صدقيتها، ومن دون أيّ إثبات للمواد التي تمّ تصنيعها منها”، توضح أنّ “انعكاسات الدواء السلبية ظهرت في: النعاس الدائم، الإرهاق، ألم في الرأس، ضربات قلب سريعة، إرتخاء في أنحاء الجسم كافة، بما يوازي الخمول الدائم. وفي ما بعد برزت آلام حادّة في الحنجرة وصعوبة في البلع”، مشيرةً إلى “أنّني استشرت على إثرها طبيباً، وطلب منّي التخلّص من هذا الذي نسمّيه دواءً. وبعد ذلك بدأتُ أستعيد عافيتي تدريجيًّا”.

 

من يتحمّل المسؤولية؟

 

الحالات المرَضية المنتشرة في المستشفيات وخارجها، والتي تراوح بين تقرّحات معويّة، وسكّري، وارتفاع ضغط الدم، وسوء تغذية وغيرها، نتيجة عشوائية الطبّ البديل، تدلّ على أنّ المشكلة الحقيقية تكمن في أنّ إعداد الخلطات والوصفات العشبية وبيعها للمستهلك لا يخضعان لمعايير وزارة الصحة ومؤسّسات الغذاء والدواء كسائر الأدوية المتوافرة في السوق اللبنانية.

 

وما يزيد الأمر تعقيداً أنّ هذه المنتوجات لا تخضع للتجارب أو الدراسة السريرية على الحيوانات أوّلاً، ثمّ على البشر. وبالتالي، فإنّ ذلك يعني أنّنا أمام واقع خطير يتطلّب حلّاً سريعاً ونهائياً.

 

يتحمّل المستهلك الذي يقع في “فخّ” الإعلانات التجارية، الجزء الأوّل من المسؤولية، ومع الأسف يدرك في النهاية، وربّما بعد فوات الأوان، أنّه سقط ضحية جهله وانبهاره بالإعلان المفخّخ.

 

وفي وقت تتحمّل وسائل الإعلام أيضاً جزءاً آخر من المسؤولية، تُعتبر الدولة المعنيّ الأول بحماية المواطنين من هكذا استغلال، وبوضعِ حدّ لكلّ مَن شرّع لنفسه الإتجار بحياة الناس من طريق الطب البديل بفروعه المختلفة، عبر ملاحقة هؤلاء وإنزال أقسى العقوبات بهم.

 

ويشرح الأختصاصي في أمراض المعدة والجهاز الهضمي النائب السابق الدكتور اسماعيل سكّرية لـ”الجمهورية”، أنّه ” في ظلّ غياب سياسة صحية وطنية واضحة ومسؤولة، أصبحت حياة المواطن اللبناني “حقل تجارب” لمن هبّ ودبّ من المروّجين لطبّ الأعشاب مثل ما يعرف بـ”أمانة كير” و”زين الأتات” وغيرهما من المنتجات المماثلة، ومن يدّعون اكتشاف ما عجز الطبّ الحديث عنه من علاجات للأمراض المزمنة والمستعصية، مستغلّين مشاعر المرضى الذين يتعلّقون بـ”حبال الهواء”، ولا من حسيب أو رقيب”. ويرى أنّ “ما نشهده في لبنان يندرج في إطار “الطهي” للأعشاب والخضار.

 

فليس هناك ما يسمّى بطبّ الأعشاب في لبنان، لأنّ كلمة “طب” تعني الأبحاث والاختبارات والنتائج التي تؤدّي إلى إمكانية استخدام هذه العشبة أو تلك في التداوي، فإنّ ما يحصل هو عملية غزو نفسيّ يدّعي مروّجوها إحياء العظام واكتشاف العلاج لداء السرطان، ويلعبون على الوتر الحسّاس للمريض الذي ضاقت به الأحوال المادّية والنفسية”.

 

وفي هذا الإطار، يؤكّد وزير الصحّة علي حسن خليل أنّ جميع منتجات “زين الأتات” و”أمانة كير” غير مرخّصة من قِبل وزارة الصحة.

ويدعو مدير عام الوزارة الدكتور وليد عمّار كلّ لبنانيّ إلى “أن يحمي نفسه بنفسه، لا أن ينتظر وزارة الصحة أو الدولة أن تحميه من هكذا ممارسات طبّية لا أسُس علمية لها”، موضحاً أنّ “التدخين على سبيل المثال يُعتبر مضرًّا بالصحة إلى أقصى الدرجات، ولكنّ الدولة لا تستطيع أن تمنع الدخان من الأسواق لتحمي المواطن من مضارّه، بل على الإنسان أن يُقلع عن التدخين بمفرده لحماية نفسه من الأمراض وتَفادي أيّ داء مُحتَمل، وبالتالي على الانسان أن يفكّر جيّداً قبل الانجرار وراء الإعلانات التي تهدف الى استغلاله اقتصادياً وكسبِ ما أمكن من الأموال”.

 

وكان المكتب الإعلامي في وزارة العدل قد وزّع بياناً يشير فيه الى أنّ “وزارة الصحة قد رفعت دعوى قضائية ضدّ منتجات “أمانة كير” و”زين الأتات” وعدد من وسائل الإعلام المرئي والمسموع، بتهمة الإعلان والإعلام عن الأعشاب الطبّية والمتمّمات الغذائية بصورة مخالفة للمادة 37 المعدّلة من القانون رقم 367 تاريخ 1-8- 1994 (قانون مزاولة مهنة الصيدلة) والقانون 384 /1994 (المرئي والمسموع)”، علماً أنّ محطات فضائية لبنانية ما زالت تبثّ إعلانات للشركتين.

السابق
الثلوج غطت قرى بنت جبيل
التالي
ليلة مع النازحين… والذين يولدون في العراء