ثورة «الميدان» بين السخاء والتسامح الأميركي

فجأة، وبلا مقدمات، فكت الإدارة الأميركية حصارها من حول مصر ـ الميدان، واندفعت ماشية فوق حطام عهد «الإخوان» الذي لم يقدر له أن يتجاوز السنة الأولى من عمره، لتبلغ القيادة المصرية (الجديدة) تحيات الرئيس الأسمر ذي الجذور الإسلامية باراك اوباما وحرصه على استقرار ارض الكنانة تحت قيادة نظامها الجديد ـ قيد التكوين.
ولقد بذل وزير الخارجية الأميركي جون كيري جهداً ملحوظاً واستفاض في التأكيد على عمق الصداقة بين واشنطن والقاهرة، بدليل استمرار المساعدات، والأهم: إصراره على زيارة القاهرة، ولقاء المسؤولين الذين جاءت بهم ثورة «الميدان» في توقيت له دلالته القاطعة، أي عشية المباشرة في محاكمة «عهد الإخوان المسلمين» ممثلاً بالرئيس المخلوع الدكتور محمد مرسي ومعظم قيادة هذا التنظيم الذي أعطي ملكاً فلم يحسن سياسته، فانتهى الأمر بخلعهم.
ولا بد، طبعاً، من الإشارة إلى أن زيارة الوزير الأميركي قد تم توقيتها بحيث تسبق سفره إلى السعودية لتهدئة غضب أسرتها الحاكمة، نتيجة إقدام واشنطن على فتح باب الحوار مع إيران، وقبلها امتناع الإدارة الأميركية عن توجيه الضربة العسكرية للنظام السوري تأديباً له على امتلاكه السلاح الكيميائي.
وبغض النظر عن التوقيت فإن «الشهادة» التي زكى بها الوزير الأميركي النظام المصري الجديد تشير إلى أن استعجال السعودية في تقديم دعمها، الذي شاركتها فيه سائر دول الخليج العربي، الإمارات والكويت وقطر (وإن بشروط مختلفة)، لم يكن مجرد نجدة عربية عاجلة للقاهرة لتأمين النظام الجديد، اقتصادياً، وحتى لا يفيد «الإخوان» من اهتزاز الوضع الاقتصادي، بل كان تلبية لطلب أميركي بعد «اطمئنان» واشنطن إلى الحكم المؤقت في القاهرة وموافقتها على دعمه.
ولقد لخص كيري هذا الموقف بكلمات قاطعة في دلالاتها:
«لقد واجهتم ظروفاً عصيبة، ولكن الشعب المصري أثبت للعالم مدى قوته. ولنكن صريحين، فما يحدث في مصر مهم جداً لأميركا وللشرق الأوسط. ونحن ندعم شعب مصر، ونريد لمصر بتاريخها العريق أن تكون قيادية في منطقتها».
هل يعني هذا أن واشنطن هي التي طلبت من السعودية وسائر دول الخليج المبادرة إلى مساعدة مصر.. وخصوصاً أنه لم يُعرف عن مملكة الصمت سرعة اتخاذ القرار فيها، ولا هذا السخاء الملحوظ في تقديم المساعدات، لا سيما لنظام جديد واجهته «عسكرية» وإن كانت قاعدته تتكون من أكثر من عشرين مليوناً خرجوا ينادون بإسقاط حكم «الإخوان»، شعاراتهم ثورية إلى حد «التطرف» كما تفهمه المملكة وتحذر منه وتعمل على إبعاد شروره عنها.
ومع استذكار الخصومة التاريخية القائمة والدائمة بين السعودية وتنظيم «الإخوان» المسلمين والتي قد تكون عجلت في قرار الدعم الملكي للحكم الجديد في مصر، فإن مبادرة الرئيس الأميركي إلى فتح الباب أمام إيران بذلك الاتصال الهاتفي المباغت، قد استفزت العائلة المالكة إلى أقصى حد، فألغى الأمير سعود الفيصل كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفتحت المملكة أرشيفها لتستخرج منه قضية فلسطين المنسية والمهملة منذ زمن بعيد، لا سيما بشعارات مرحلة الثورة كطريق إلى التحرير.
هل تعني تصريحات كيري في القاهرة أن النجدة السعودية للنظام الجديد في مصر، والتي سبقت وصوله إلى مصر بشهرين أو يزيد، إنما تمت بطلب أميركي، لا سيما وأن نجدات خليجية أخرى مؤثرة بدورها قد لحقت بها مباشرة، مما يؤكد أن ثمة قراراً استراتيجياً لم تتعود المملكة على اتخاذه بهذه السرعة، ولا هي بقادرة على إلزام أطراف دول الاتحاد الخليجي بتنفيذه بغير مناقشة… والأمر يتعلق بمليارات الدولارات وليس ببضعة ملايين للمساعدات الإنسانية؟
وهل بادرت واشنطن إلى «تزكية» النظام الجديد في مصر، والطلب إلى أصدقائها السعوديين والخليجيين التعجيل في دعمه، مادياً، بعدما استشعرت أن هذا النظام عازم على فتح الأبواب أمام كل دولة قادرة على المساعدة، ومستعدة لتقديمها، كما أعلن وزير خارجية مصر قبل ساعتين من لقائه الزائر الأميركي الذي كرر، في كلمته المكتوبة بعناية، والتي أكدت انه إنما ينطق باسم الرئيس اوباما، ويعلن ما كلفه الإعلان عنه، ولا يجتهد؟
لا يضير القاهرة التي استولد ميدانها الحكم الجديد بصيغته المؤقتة في انتظار إنجاز الدستور والدعوة إلى انتخابات نيابية يفترض أن تليها انتخابات رئاسية في مهلة ستة أشهر، أن تتلقى المساعدات من الولايات المتحدة أو من السعودية وسائر دول الخليج العربي، أو من أية دولة غربية أو شرقية أخرى، ولو كانت روسيا أو الصين..
فليست ثورة الميدان للبيع، على حد ما عبّر بعض قادة الخروج على حكم «الإخوان» في تلك التظاهرة التاريخية غير المسبوقة… وليس من حق أي طرف، في الداخل أو في الخارج، أن يطعن في وطنية الحكم الانتقالي في القاهرة، لمجرد أن الإدارة الأميركية قد أوعزت إلى «أصدقائها» من أهل النفط العربي بتقديم المساعدة العاجلة، على شكل استثمارات سريعة أو قروض طويلة الأجل… خصوصاً أن هذه الدول النفطية بطيئة القرار في العادة، ولا سيما حين يتصل الأمر «بالأشقاء العرب» الذين تراهم، غالباً، طامعين في ثرواتها، «يأخذون منها ثم ينكرون جميلها»، على حد ما كان يردد دائماً بعض أفراد الأسرة السعودية.
على أن قراءة متأنية لهذه المبادرة الأخوية السريعة إلى نجدة مصر تكشف أن الحرب على «الإخوان»، سواء داخل مصر أو في التنظيم الدولي لـ«الإخوان» حيثما وجد، لم تكن السبب الوحيد في هذا القرار الحاسم، بل لا بد أن احتمال توجه العهد الجديد في مصر نحو روسيا لاستعادة العلاقة الحميمة معها، وكذلك مع الصين، يظل ماثلاً في الذهن.
بالمقابل فإن السعودية، ومعها دول الخليج، تتخذ من شعار مواجهة الأطماع الإيرانية، وسيلة لدغدغة مشاعر المصريين بأن القاهرة هي ضمانة مؤكدة لعروبة الخليج، بأقطاره جميعاً، مما يتضمن الإيحاء بأن مصر لن تتوجه نحو إيران، ولن تقف محايدة تجاه «أطماعها في خيرات الجزيرة والخليج» ولن تسمح «للهيمنة الفارسية» أو «لطغيان الشيعة» واستيلائهم على القرار في المشرق العربي، وبالتحديد في كل من سوريا والعراق، وبالاستطراد «حزب الله» في لبنان.
ويشهد تاريخ مصر بأنها لم تكن يوماً «طائفية» في سياساتها، ولا هي كانت «مذهبية» في تعاملها عموماً، وعلى هذا فإن توظيف المال السعودي ـ الخليجي لن يستطيع تبديل هذا الموقف المبدئي المصري، الذي وفر لمصر وحدة وطنية متماسكة وتزكية استثنائية وجعلها فوق النعرات الطائفية والمذهبية.
وها هي مصر الميدان تواجه «الإخوان المسلمين» فتسقط حكمهم وتحاكم قياداتهم على أخطائهم القاتلة، ومن ضمنها محاولات إثارة الفتنة وتوسل التعصب والشعار الديني للهيمنة على السلطة حتى لو أدى ذلك إلى مذابح طائفية كما ضد الأقباط المصريين، أو حتى مذهبية، حتى لا ننسى «سحل» بعض القلة القليلة من «الشيعة» في مصر.
لقد تعهد وزير الخارجية الأميركية «بأن تكون الشراكة مع مصر في أقوى حالاتها، في ظل حكومة مدنية منتخبة ديموقراطياً وسيادة القانون».
ولعل الإخوان السعوديين خاصة والخليجيين عموماً في ذروة حماستهم لمثل هذه الأهداف التي يفضلون أن تتحقق في بلاد الآخرين، في البعيد، بدل أن يتحملوا المخاطرة بتركها تهدد مجتمعاتهم التي لا تستسيغ الأفكار المستوردة، وأخطرها حقوق الإنسان.
وفي انتظار ما سيقوله كيري في الرياض، ثم بعدها، يمكن أن تجرى قراءة جديدة للموقف الأميركي من مصر ـ «ثورة الميدان».

السابق
إلى نهاية الولاية وأبعد؟
التالي
الخاصرة السنية الرخوة لايران