الاستكبار، او الاستعلاء. اي هذا الشعور المرضي الذي قد يصيب الفرد او المجموعة، او المجتمع. والاكثر سوءاص في هذا الداء ان يتحول الى مرض عضال يصعب الخلاص منه.
عندما نشير الى هذا المرض، لا نقصد هذا السلوك الظاهري الذي قد يبرز في العلاقات اليومية. فكثيرون منّا من يشيرون بهذا المرض إلى سلوك الفرد. فنقول عن فلان “متواضع”، ونقول عن آخر انه “متكبر”. ومن التماس اليومي والشخصي نصدر هذه الاحكام وتصدر بحقنا.
هذا شكل من اشكال المرض. لكنه يكتسب خطورة كبرى عندما يتأتى من بعد ايديولوجي، او ديني، او عنصري. اي عندما يصيب جماعة من الناس تصل في اعتقادها الى انها هي الفرقة الناجية. والفرقة الناجية هنا ليست احتكارا نجده لدى اصحاب الافكار والمعتقدات الدينية، بل تتعداهم الى كثيرين من أصحاب الافكار اللادينية والايديولوجيات السياسية.
الاعتداد والثقة بالنفس، والأنفة والكبرياء، هذه ليست كلّها من أعراض الاستعلاء، ولا تلك الابتسامة البلهاء. والتواضع شكلا في المظهر والسلوك اليومي هو تعبير بالضرورة عن تواضع حقيقي. ولأننا نعيش في زمن حيث الانتماء السياسي الديني او الطائفي محور الحياة السياسية في بلادنا، يمكن ملاحظة ان التيارات السياسية الدينية هي ابرز المصابين بهذا الداء. فهذه الاحزاب والتيارات تقوم على تربية محازبيها ومريديها على ان ما تروج له من عقائد وآراء وتطلعات، في الشأن العام والخاصّ حتى، هي آراء مقدسة وهي بنت الحقيقة التي لا يأتيها الخطأ من اي جانب.
ولأنها كذلك تلبس قناعاتها وسلوكها لبوس الدين والقداسة، فيتراجع النقد بين المحازبين، وتتحول الطاعة العمياء الى سلوك مثالي داخل هذه البنية. وهذه الطاعة هي الوجه الآخر للاستكبار والاستعلاء، لأنها تصبح مرضا خارج البنية الحزبية اي في علاقات المحازبين مع غيرهم او المختلفين من اصحاب الآراء المضادة او المتباينة عما ينطق به الحزب او الجماعة.
اولى مظاهر هذا الداء هو ذاك الشعور بأن الآخر هو اما قاصر عن الفهم واما مضلل او جاهل او كاذب، ما دام لم يتبنّ ما اقول ولم يأخذ به. خصوصا انني انطلق من قناعة عميقة بأنني اقول كلاماً لا ينطق عن الهوى، وان ما خلصت اليه من قناعات ومواقف هي من اصل الدين والعبادة وهي طريقي الى الجنة، والجنة باعتقادي ليس لها طريق غير الذي اسلكه.
مشكلة الاحزاب الدينية انها لا تفصل بين الدين والانتماء السياسي، فتجعلهما متطابقان ويكتسبان القداسة نفسها. لذا لا تستطيع، بطبيعتها وفي بنية تفكيرها ومعتقداتها، ان تشك بان هناك آخر يمكن ان يكون على طريق الحق او الصواب. وهذا نتاج تربية حزبية خطيرة البست لبوس القداسة والطاعة لله. فالطاعة لله تعني طاعة المجموعة والالتزام بمقولات القائد، والطاعة التي تتجاوز البعد الاداري المطلوب في اي مجموعة منظمة، الى ما عداها: اي الى الغاء روحية النقد والاعتراض والمساءلة داخل المجموعة، والى تعزيز روح الاستعلاء على الآخر.
عندما تكتمل حلقة الطاعة والاستعلاء، اذ ذاك يصبح الكذب على الآخر وقتله وانتهاك حقوقه نتيجة طبيعية. والا فما معنى ان تكون الحركات الدينية والطائفية والعقائدية المتشددة اكثر الجهات استسهالا لقتل الآخر.