الكيماوي… والتخلّي عن السلاح الاستراتيجي

“الخط الأحمر” الذي رسمه أوباما منذ أكثر من عام ضد إستخدام بشار الأسد للكيماوي إنزاح عن حدوده أربعة عشر مرة. كلما كان يُبلَّغ، هو أو أي واحد من نظرائه الأوروبيين عن واحدة من وقائع الإستخدام هذا، كان يرتبك ويتنصل ويغمغم… الى أن حصلت مجزرة الغوطة الكيماوية. فكان ما نعرفه جميعاً عن رقصة التانغو التي لم يبرع بها، من ضربة مهيأة بكل التأثيرات الهوليودية المطلوبة، الى تراجعات متتالية عنها، اختتمت، حتى الآن بـ”مسار” أوقعه فيها، أو أنقذه بها خصمه الدولي بوتين، بما صار إسمه “المبادرة الروسية”، الرامية الى نزع السلاح الكيماوي السوري بإشراف دولي، وبلطف وأناة. تلاه طلب سوريا لإنضمام الى منظمة حظر الأسلحة الكيماوية الدولية… الى أن بلغنا ما نحن مقبلون عليه في الأيام التالية:
بوتين، الذي ما زال يرفع “إثباتاته الدامغة” على أن من ارتكب جريمة الغوطة هم “التكفيريون”، بوتين هذا الذي يقف سداً منيعاً تجاه أي محاسبة لبشار على هذه الجريمة، بصفته “بريئاً”، ماذا يريد من مبادرته هذه؟ يريد “مكافأة” بشار على عدم ارتكابه هذه الجريمة؟ يريد تمرير قصاصه؟ ماذا يريد بالضبط؟ هذا العبث في فهم الأمور يعود الى مفارقة هائلة: هم انفسهم، من بشار وبوتين، يريدان نزع الكيماوي؟ ويعتبرونه “نصراً”؟ هم وأبواقهم الاعلامية؟ فيما كانا في أمس قريب يصرخان للعالم البراءة من الكيماوي؟ وبعد ذلك، يريدان حرمان دمشق من السلاح الكيماوي، عقاباً لها على ذنب لم ترتكبه؟
ثمة عبث آخر في موضوع نزع الكيماوي هذا: هو بالأساس، الكيماوي، بنيت قدراته بمال الشعب السوري، من أجل إقامة ما سمي على مدار عقود “التوازن الإستراتيجي مع اسرائيل”. أي انه سلاح “وطني” يفترض به أن يكون مقدساً. ولا يضع امرء يديه على السلاح من اجل هذا الغرض الأسمى، إلا ويكون خائناً، باللغة “الممانِعة”، قبل أية لغة اخرى. بشار، بمنطقه الهيكلي المعلن، اختار أولى درجات الخيانة عندما استعمل هذا السلاح ضد شعبه؛ طبعا لا نقول ان رصاصة واحدة يوجهها ضد مواطن تجعله مجرما، خائناً. ولكن ما علينا… المهم ان بشار استخدم ضد شعبه هذا السلاح “الاستراتيجي” بدل أن يستخدمه ضد اسرائيل. ولكن هذا لا يكفي: بعدما استخدمه، صارت نجاته تكمن في التخلّص منه، في المشي، ولو المتعرج، لتسليم هذا السلاح، أو تدميره، لا فرق. باع هذا السلاح مقابل أيام، أو سنوات أخرى إضافية على عرشه. أراح اسرائيل التي رأت في المبادرة الروسية حلا لمشكلة السلاح غير التقليدي السوري الذي طالما حذرت اسرائيل من انتقاله الى يد “حزب الله” أو إلى أيادي التنظيمات الجهادية السورية. وأراح “حزب الله”، أيضاً… الذي هلّل للمبادرة مسجلاً إنتصاراً آخر لـ”سوريا المقاومة والممانعة”…!
من هذا القليل، تبدو سوريا تحت القبضة الروسية-الأميركية، أكثر من أي يوم مضى. مصيرها الآن معلق على ما يمكن أن يقبضه الروس والاميركيون، إلى ما يمكن أن يتقاسماه حول هذه البقعة من العالم، أو أن يتساوما عليه. الروس نيابة عن الأسد، والأميركيون نيابة عن شيء مبهم، إنساني في خطابيته، إستراتيجي-إسرائيلي في همّه. في هذه اللحظة بالذات، وبصرف النظر عن كوننا مع بشار أو ضده، كمواطنين أو شعوب، أو دول… سمّنا ما شئت… نبدو وكأننا أقل من جنود في لعبة شطرنج دولية، لا حصان لنا ولا فيل، ننتظر انقضاض أحد الجبارين على ملك الآخر؛ الجبار الآخذ بالتقهقر، والآخر المأخوذ بأوهام القيصرية السوفياتية-الأرثوذكسية، المدعومة برغبة هائلة بالثأر ضد ذاك الذي تسبّب بانهيار إمبراطوريته السوفياتية (والصينيون، في هذا المشهد مثل الأبطال الرئيسيين المختبئين خلف الستارة، يعدون لدورهم…).
فوق ذلك، حظوظ السوريين قليلة. ليس فقط لأن الكذبة حول امتلاك صدام حسين أسلحة الدمار الشامل، جعلت من ضحايا الأسد الكيماوي كالراعي الذي كذب وكذب وعندما صدق، لم يصدقه أحد؛ سهلت افلات بشار من المسؤولية، حتى الآن على الأقل… في ظروف اخرى، أنظف من تلك التي نعيشها، ما كانت براهين تورط بشار في الكيماوي تواجه هذا القدر من الصعوبات في المصداقية.
معالم أخرى من قلة الحظ السوري: ما أن نادى السوريون بالديموقراطية، حتى امتحنت هذه الديموقراطية على المذبح الدولي أشد امتحان. بدت الديموقراطية في هذا الكباش كأنها خلقت لخدمة الاستبداد: قرار التدخل الأميركي كان يحتاج إلى موافقة الرأي العام والكونغرس، غير المضمونين. الأول، الرأي العام، لأنه “تعب” من الحروب… فيما نحن، برثاثتنا، ما زلنا ننادي بها، في كل حدب وصوب. فيما الكونغرس، غير مقتنع لأن الرأي العام أيضاً غير مقتنع… قارن مع “برلمانتنا” الشكلية، وسوف تحزن… فيما الإعلام الحر يفعل فعله، وينشر على إحدى الصفحات الأميركية رسالة من بوتين إلى الرأي العام الأميركي، يحثه فيها على رفض الضربة، لأنه “يوجد القليل من المدافعين عن الديموقراطية في المعارضة السورية”!. ضربات معلم مثل هذه تكون نتيجتها: إن الرئيس الذي رغب دائماً بأن يكون مستحقا لجائزة نوبل للسلام، وجد ذريعته من أجل التملص من “الضربة”: ان يتذرّع بها ويقرر التردد. فيما في الجهة الأخرى، بوتين الامبراطور، ووزير خارجيته الأمين، يتخذان القرارات من دون ان نعرف كيف، ورأي عام لا يسأل، وبرلمان “سيد نفسه”، كما برلماننا. بدت امبراطورية الديموقراطية هشة بشفافيتها، ضئيلة بديماغوجية خطاب رئيسها، سائرة على دروب الفوضى والشقاق. فيما الإستبداد الروسي بدا واثقاً، يمشي، بيد واحدة حديدية، بقلعة محصنة باجماعها؛ فاكتسب وثبة عالية، وأعطانا درسا بتفوقه الاستراتيجي، مثالا لتلك الشعوب التي تحلم بأن تقود… درس من السينكية القائمة على القوة الصرفة. أين منها سينيكية الإمبريالية الأميركية!
قلّة الحظ الأخرى، ظهرت جلياً في الحجة العارمة التي رفعها الرأي العام الأميركي والأوروبي، هو “البديل الاسلامي”، الجهادي أو الاخواني. الشعارات التي رفعت في التظاهرات المعارضة لضربة أميركية على سوريا، حضر فيها الإسلاميون المتطرفون، بصفتهم “التكفيرية”، خصوصاً. أما الذين تعمّقوا اكثر في تحليلاتهم، فهم، بالإضافة الى الخطر الجهادي البديل عن بشار، يثيرون مسألة التجارب العربية السابقة على سوريا في ثوراتها، ومآلاتها: مصر، ليبيا، تونس، اليمن. وكلها مثل كبسولة ضغط وانفجرت على إسلام سياسي وفوضى وكراهية للأميركيين والغرب وشقاقات اهلية وسياسية، كلها عنيفة، كلها محرومة من أدوات التفكير والتنظيم والتأطير، إلا الاسلامية منها. وبعد ذلك، الممارسات الموثقة لتنظيمات سورية اسلامية متطرفة، من ذبح وجلد وتدمير اضرحة وتماثيل وطلب جزية الذمة والمحاكم الاسلامية الخ. كلها وصلت الى الرأي العام الغربي ومحلليه. ووصلتنا أيضا، مباشرة ونالت من مدننا…
هذه قلة حظ من العيار الثقيل: أن لا يكون بديلا عن بشار غير الاسلامي، المعتدل منه والمتطرف.
هل نستجلب “الينْبغيات” (من “ينبغي”) ونقول انه على الثورة السورية كذا وكيت من المهام على عاتقها؟ قطعا لا.

السابق
العرقوب 1: منطقة محرومة.. تحتضن لاجئين سوريين
التالي
نصرالله يستقبل القوى الامنية في الضاحية باطلالة مسائية غداً