التفكير في قلب العاصفة

كانت حرب تموز 2006 حدثاً مفصلياً في تاريخ لبنان والمنطقة. فهي لم تكن وليدة الشرارة التي أطلقتها مهما قيل عن ذاك التوقيت وتلك الذريعة. هي نبذ من القرار الدولي 1559 ومهمة أسندت لإسرائيل في سياق العاصفة الغربية التي ضربت المنطقة كلها وهدفت إلى إحداث تغيّرات في موازين القوى فيها. كل الأجواء السياسية، ما انكشف منها وما خفي، كانت تتوقع أو حتى تنتظر نتائج عملية عسكرية إسرائيلية تكمل انسحاب القوات السورية من لبنان فتغيّر من المشهد اللبناني وتكمل تطويق سوريا بهدف إحداث تغيير داخلي فيها تمتد آثاره إلى المحور الذي تشكل من لبنان إلى إيران.
فشلت الحرب الإسرائيلية على لبنان لأسباب عديدة ذكرتها القيادة الإسرائيلية نفسها وتوثقت في تقرير «فينوغراد». لم تكن الحرب الجوية قادرة على تحطيم قوة «حزب الله» ولم تكن الحرب البرية التي جاءت متأخرة قادرة على تحقيق اختراق نوعي ميداني بعد استيعاب الصدمة الأولى عسكرياً وسياسياً. في هذه الحرب فشلت خطة الضغط على جمهور «حزب الله» أولاً وعلى مجمل البيئة السياسية اللبنانية لجعلها بيئة معادية ومبادرة. فقد لجم صمود الأيام الأولى كل الدعوات المتخاذلة أو حتى محاولات عزل «حزب الله» تحت شعار المغامرة أو التسبب بتلك الحرب. في مطلق الأحوال كانت الحسابات الإسرائيلية والأميركية من خلفها خاطئة. أظهرت المقاومة مفاجآت عدة من بينها مستوى التضحيات البطولية ومن بينها الاستعدادات العسكرية والتنظيمية.
أنشأت نتائج حرب تموز معادلة لبنانية جديدة أعطت «حزب الله» هيمنة على الدولة الضعيفة وعلى الفريق السياسي الآخر الذي حمل مشروعاً يهدف إلى تصفية إرث المقاومة ومنجزاتها والالتحاق بالسياسة الغربية. كما أنشأت وضعاً إقليمياً عزّز المحور الذي واجه مطالب الغرب من لبنان إلى إيران مروراً بسوريا والعراق وقطاع غزّة.
لم تتوقف السياسة الغربية عن مواجهة هذا المحور بوسائل جديدة من خلال طروحات نزع سلاح المقاومة أو احتوائه في إطار الثقافة السائدة للانضواء في الخطة الغربية. اشتدت الهجمات على هذا المحور الذي واجهها بالسياسات الأمنية. تعمّق الانقسام اللبناني وتجذّرت الأطراف في مواقعها الطائفية. تدريجياً صارت «المقاومة» جزءاً من قوى الصراع الداخلي على السلطة، وما كان قوة «طرفية» موجهة ضد إسرائيل صار قوة «مركزية» في صياغة النظام السياسي والمعادلة الداخلية. انضم «حزب الله» إلى النادي السياسي الطائفي حاملاً معه عقيدة دينية وتحالفات إقليمية يصعب استيعابها داخل النظام وداخل الكيانية اللبنانية.
تظهرت أكثر صورة الأطراف اللبنانية كافة كوكلاء للمعسكرات في المنطقة ومعها صورة النزاع المذهبي. تراجع رصيد حرب تموز كانجاز وطني يصب في خانة تقوية الدولة اللبنانية وتحول إلى موضوع خلاف وانقسام دون ان يبادر «حزب الله» في خطابه السياسي وممارسته إلى معالجة هذا الانقسام. فإذا كانت أولوية «حزب الله» هي المقاومة بالمعنى العسكري والسياسي، أي مواجهة الهيمنة الغربية على المنطقة فكان عليه أن يتجنب الانخراط في النزاعات السلطوية التقليدية أو ان تكون له رؤية وطنية داخلية مختلفة عن آليات الصراع الطائفي القائم. إلا ان «حزب الله» المحكوم بنيوياً بموقعه الطائفي وعقيدته الدينية عجز عن تقديم خطة لتطوير النظام السياسي ولتعزيز الطابع «الوطني» للدولة. فهو كفصيل من ظاهرات حركيات الإسلام السياسي أصبح مشروعاً عقائدياً أحادياً مكشوفاً مع التحولات الإقليمية العاصفة خاصة بعد الثورات العربية.
تصلّب «حزب الله» في الموقف من الانخراط في استراتيجية دفاع وطني تعيد للدولة وظيفتها الأساسية وتعطي للشعب دوره. فالشعار الذي تمسك به «الدولة والشعب والمقاومة» تحول عملياً إلى استتباع للدولة ومؤسساتها وتطييف لشعب المقاومة أي لجمهورها. أما انخراط الحزب في معركة الدفاع عن النظام السوري فقد نزعت عنه صفة التحرر الوطني ووضعته في حالة عداء مع تطلعات ومصالح شعبية واسعة.
لن ينقذ «حزب الله» وظاهرة المقاومة التي نجح فيها وتراثه النضالي وسمعته الوطنية والعربية أن يؤكد التزامه قضية فلسطين. ان التزام «الشيعة» هذا هو أمر مهم وحيوي بوصفهم جزءاً من مكونات الشعوب العربية، ومواجهة إسرائيل جزء من وطنية أي شعب عربي ومصالحه. لكن المشكلة في طبيعة هذه المواجهة وظروفها وشروطها بعد ستة عقود ونيف. فلا هذه المواجهة ممكنة من خلال شعب أو جماعة من شعب ولا هي شرعية بمعزل عن خيارات الشعب الفلسطيني أو عن توافق وتعاون شعوب المنطقة. ولا هي ممكنة فقط من خلال عمل عسكري يقوم به جيش أو منظمة عسكرية. إسرائيل جزء عضوي من منظومة دولية لا تهزم إلا بتغيير جدي في سياسات تلك المنظومة وإسرائيل مجتمع قوي لا يتفكك إلا من خلال فتح آفاق حل عربي للمسألة اليهودية، ولمسائل الأقليات والاثنيات والعلاقات بين الأديان والطوائف. وإسرائيل لن تزول إلا بعملية تاريخية مركبة ثقافية سياسية اجتماعية اقتصادية تغيّر وجه المنطقة كلها.
لا نطعن بمصداقية التزام الشيعة هدف تحرير فلسطين ولكننا لا يمكن ان نرى هذا التحرير مهمة جماعة طائفية لا في ميزان القوى ولا في مردود هذه المواجهة التي تتحول يوماً بعد يوم إلى انقسام في الأمة وفي الشعوب وتخلق مشكلات أشد خطورة على المجتمعات العربية ودولها وكياناتها.
ومن نافل القول ان منظومة الاستبداد العربية والتخلف الاجتماعي الذي راكمته والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي فاقمتها هي المسؤولة عن الهزائم المتتالية عسكرياً وعن التخاذل السياسي والتفريط بأي إنجاز عسكري سياسياً.
كان يفترض ان التجارب العربية قد أثمرت دروساً يجب استخلاصها لكل عمل تحررّي. وجاءت الثورات العربية لتؤكد ليس الأولويات بمعنى المتقدم من المهمات على المتأخر منها، بل على العكس، على ترابط مهمات التحرر الوطني من الامبريالية مع ضرورات التحويل السياسي والاجتماعي الداخلي. ولن تنجز هذه المهمات عبر فعالية «أحادية» خاصة إذا كانت مجرد فعل عسكري أو إذا كانت وهذا هو الأخطر عبر فئة أو جماعة وكأنها تنوب عن الشعوب والدول وتنفرد بادعاء احتكار قضية او بممارسة سياسة «العزف المنفرد» من دون النهوض الوطني والشعبي والمشاركة الحرّة الواعية في هذه المهمات.
هذه لحظة لمراجعة ثلاثة عقود من التجربة ولمعاينة معاني ودلالات الثورات العربية والعمل على تعميق مسارها وتحسين أدائها وتطوير إنجازاتها. فهل نفتح هذه الملفات على حوار سياسي عقلاني أم نغلقه على مشهد العقائديات المكتفية بذاتها والأحزاب والحركات التي تريد بمفردها أخذنا إلى «حريتها» ونمط تفكيرها ونموذجها الاجتماعي الخاص؟

السابق
الاحتلال الإسرائيلي يخطف نازحاً سورياً من شبعا
التالي
شربل: قطع طريق المطار ممنوع ولن نسمح بذلك