في الساعات الأخيرة قبل موعد الإفطار، يضج سوق الطويلة في منطقة صبرا بالحياة. تختلط الوجوه بين الباعة والزبائن. الكل يشتري ويبيع، تتزاحم أصواتهم مع أبواق السيارات والدراجات النارية في السوق المكتظة. يتغير المشهد قليلاً عند الوصول إلى مخيم شاتيلا فتختفي السيارات وتبقى حركة المارّة نشيطة في الشارع الضيق الذي يمثل مدخل المخيم، والذي تزينه الأعلام المرحّبة بالشهر الفضيل. وقد توزع العديد من الشبان العاطلين من العمل على جوانبه ممن احترفوا فن الانتظار. يمضون وقتهم في الحديث والتهكم وتمييز وجوه الغرباء بين المارة كالكثير غيرهم من شبان المخيم. ولكن، ليس هذا حالهم جميعاً. فخلف الباب الصغير لرابطة «أهالي مجد الكروم» الذي تجمع أمامه العشرات من الأطفال، شاب يدعى محمد (24 سنة) ورفاقه من شبان المخيم يُنظّفون الطاولات ويرتّبون القاعة، لتكون جاهزة لاستقبال الأطفال المقيمين والنازحين على وجبة الإفطار.
فهذا اليوم مخصص لهم ضمن برنامج «الرابطة» الخاص بمائدة الرحمن. لقد فضّل محمد أن يعمل هنا متطوعاً على أن يحتل مع غيره جوانب الطرق في «شاتيلا». فرص العمل المتاحة له قليلة، على رغم أنه متخصّص بأكثر من مهنة، ما دفعه للبحث عن مكان يقتل فيه الوقت قبل أن يقتله. فكان العمل التطوعي هو الأنسب له. ويقول: «أحب فعل الخير وهنا أستطيع استثمار الوقت في شيء مفيد لي وللناس».
قلة فرص العمل والرغبة في تمضية الوقت بعيداً عن شوارع بيروت وضواحيها وفعل الخير، ربما جعلت محمد يتجه نحو العمل التطوعي ويداوم عليه منذ ثلاث سنوات. أما بالنسبة إلى زميله وسام (26 سنة) المتخرج من الجامعة، فهناك حاجة ضرورية إلى تعزيز مقومات الحياة داخل المخيم. ويقول إن «مخيمنا ينقصه كثير من الأشياء، والعمل الإنساني أصبح جوهرياً لاستمرار الحياة فيه نتيجة الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتفاقمة مع ازدياد أعداد الفقراء والنازحين». وهي ليست المرة الأولى التي يشارك فيها وسام في عمل تطوعي، إذ يعتبره «ثقافة مهمة لتعزيز البنية الاجتماعية والإنسانية في المخيم، ولكنها للأسف غير منتشرة بين الشباب نتيجة قلة الوعي وغياب الجهات التي يمكن أن تعمل على تطويرها».
المشاركة في العمل التطوعي ليست حكراً على الشبان من أبناء المخيم، بل تشارك الفتيات في المهمة نفسها. هنادي (17 سنة) تساعد في تحضير موائد الرحمن خلال رمضان، فأهلها لا يسمحون لها بالمشاركة إلا في الشهر الكريم باعتباره «عمل خير». هي تحبه لأنه يفتح لها المجال لتكسر روتينها اليومي و «المكوث في المنزل طوال اليوم» وتشعر بالفرح عندما تقدم مساعدة للآخرين.
نازحون سوريون
عملية بناء ثقافة التطوع في البيئات الفقيرة ضرورة تفرضها الحاجة ويلزمها الوعي لأهميتها، بخاصة في أماكن مثل مخيم شاتيلا الذي يعجّ بالفقراء والنازحين، وإن كانت العملية صعبة.
على مسافة أمتار من مدخل المخيم وفي صالة «جمعية البراعم للإغاثة والتنمية»، تنهمك حوالى 20 فتاة في مقتبل العمر في تحضير الطعام لوجبة الإفطار التي تقدمها الجمعية يومياً خلال الشهر المبارك للفقراء والنازحين السوريين. ويقول رئيس الجمعية أحمد حسين: «استطاع كادر الجمعية وبرنامج الخدمات المتنوع تربية هؤلاء «البراعم» على المشاركة في تقديم الخدمات الإنسانية وبخاصة لدى النازحات السوريات المشاركات في التطوع، بهدف كسر حالة العزلة لديهن بعد الظروف التي مررن بها في بلادهن وإعادة تأهيلهن ليندمجن بالمجتمع من جديد». وإضافة إلى زرع ثقافة العمل التطوعي لدى هؤلاء الفتيات استطاعت الجمعية تحقيق انسجام بين من هو نازح ومن هو مقيم في المخيم، وبين السوري والفلسطيني. فكانت السورية علا (14 سنة) تعمل إلى جانب الفلسطينية غفران (13 سنة) بكل تعاون ونشاط مع رفيقاتهما، وجميع الفتيات يقلن كلاماً متشابهاً: «أنا أحب مساعدة الآخرين».
موائد الرحمن أصبحت جاهزة وبدأ الصائمون التوافد إليها. ومع اقتراب موعد الإفطار، راح الهدوء يخيّم على شوارع شاتيلا، بينما كان المتطوعون في أوج نشاطهم، يقدمون لضيوف الموائد ثمرة عملهم في هذا اليوم. يعم السكون للحظات مع صوت المؤذن، ثم لا يلبث أن يضج المكان بالحركة مرة أخرى، وكذلك تستعيد الشوارع نشاطها بتثاقل هادئ وينتشر الشبان على جوانب الطرق من جديد. وربما لو أتيحت لهم الفرصة لكان بعضهم أيضاً يشارك في العمل التطوعي وتقديم المساعدة. ولكن، غياب المؤسسات الرسمية وقلة الجهات التي تُعنى بنشرها، إضافة إلى نسب البطالة العالية، ستتركهم يستهلكون أوقاتهم على الطرق وفي الأزقة. وعلى رغم السمعة السيئة لمخيم شاتيلا والأوضاع الصعبة التي يعيشها سكانه، ختمت المتطوعة رنا كلامها قائلة: «أحب مخيم شاتيلا ولا أريد إبداله بأي مكان آخر».
لعل حبها هذا يمثل إشارة إلى وجود من يرغب في تغيير الصورة النمطية عن هذا المكان من خلال العمل على تقديم المساعدة للمحتاجين فيه وكسر حدّة المشهد المأسوي. وقد يمثل العمل التطوعي محاولة جادة لرسم وجه آخر للمخيم.