ماذا يعني أن يضع عون 8 و 14 في سلّة واحدة؟

أبرز ما كشفه عون في مؤتمره الصحافي، ولو بطريقة غير مباشرة، أنّ لقاءه مع السيّد حسن نصرالله لم ينجح، ليس فقط في طيّ الصفحة الخلافية بينهما، إنّما حتى في تنظيم الخلاف، وعندما يفشل اجتماع من هذا النوع في ترتيب شؤون البيت يعني أنّ الأمور وصلت إلى نهاياتها، خصوصاً أنّه كان يعوّل كثيراً على هذا اللقاء لإعادة المياه إلى مجاريها، فإذا بدائرة الخلاف تتّسع إلى درجة بات يصعب ترميمها، في ظلّ شعور عون بأنّ الحزب يقف حائلاً أمام تحقيق رغباته.

وإذا كان الحزب والتيار نجحا في تجاوز الخلاف حيال التمديد النيابي، فإنّ التمديد لقائد الجيش جان قهوجي يعتبره عون موجّهاً ضدّه شخصياً كونه يبقي قهوجي في السباق الرئاسي، ومعلوم أنّ التوازنات الحاليّة يصعب أن تفرز أكثر من ثلاثة خيارات: التمديد لرئيس الجمهورية، الفراغ، إنتخاب قائد الجيش، فيما إيصال قريب منه إلى قيادة المؤسّسة العسكرية يضمن عدم ترشّحه إلى الرئاسة الأولى، وبالتالي يبقي حظوظه الرئاسية قائمة.

ولكن أكثر ما يقلق عون ويزعجه أنّ كلمته لم تعد مسموعة وأنّ رأيه لم يعد يُؤخذ في الحسبان، وأنّ التوافقات تعبر فوق رأسه، وذلك من دون أيّ اعتبار لوزنه السياسي والنيابي. وما يصحّ نيابياً وعسكرياً يصحّ أيضاً رئاسياً وربما في أيّة تسوية مستقبلية محتملة، وتمنينه من قبل الحزب بأنه يمتنع عن المشاركة الحكومية من دونه لا يعوّض خسائره النيابية والعسكرية، فضلاً عن أنّ أيّ حكومة إئتلافية لن يكون لعون فيها أكثر من ثلاثة أو أربعة وزراء.

وأمّا محاولة عون تحييد موضوع المقاومة فغير قابل للصرف، ولم يتردّد أساساً ردّاً على سؤال عن قيمة التحالف الاستراتيجي إذا لم يترجم مؤسّساتياً بالدعوة إلى توجيه هذا السؤال إلى الجهة المعنية، وبالتالي تحييد المقاومة إمّا هو اضطراريّ ربطاً بأمنه الشخصي، أو مؤقّت بانتظار أن تتدرّج مواقفه وصولاً إلى انتقادها من باب انتقالها إلى سوريا، أو لمجرّد إبقاء نوع من جسر مع الحزب ببعده الإقليمي من زاوية عدم تكرار خطَئِه السابق بالانتقال من محور إلى آخر، خصوصاً أنّ أيّ انتقال مشابه يفقده كلّ صدقيته ويُظهر أنّ أولويته شخصية لا وطنية، فيما التمايز عن “حزب الله” داخلياً من دون الربط مع “المستقبل” مقابل التبريد مع السعودية يجعله على مسافة واحدة من الجميع في الداخل والخارج.

ويستطيع عون تبرير فك تحالفه الداخلي مع الحزب بتحميل الأخير مسؤولية الانفصام في سلوكه بين عنوان “تحرّري نبيل” اسمه المقاومة، وبين ممارسة عنوانها الفساد والالتفاف على الدولة ومؤسساتها، ويستطيع القول أيضاً إنّ هذه الممارسة شكّلت مفاجأة كبرى بالنسبة إليه، حيث لم يكن يتوقع إطلاقاً أن تكون الجهة التي تحمل عنواناً بهذا الحجم لا تقيم أي اعتبار للدستور والمؤسسات، الأمر الذي يتنافى ويتناقض مع أهدافه التغييرية والإصلاحية.

وقد يختلف انتقاد عون هذه المرّة لـ”حزب الله” عن المرّات السابقة لثلاثة أسباب: عدم قدرة الحزب على إعطاء أي بديل أو تعويض لعون، عدم قدرة عون على استمرار تغطية الحزب الذي لم تعد تقتصر مواجهته على إسرائيل وأميركا، إنما تمددت لتشمل للمرّة الأولى وبهذا الحجم أوروبا ومجلس التعاون الخليجي ودخوله في سوريا في مغامرة غير محسوبة النتائج، عدم قدرة عون على شراء الوقت الذي يسير لغير مصلحته.

ولكنّ الاختلاف الأبرز بين الانتقادات السابقة واليوم الدعوة المعلنة لعون التي توجّه فيها إلى الشعب لمواجهة الطبقة السياسية على اختلاف انتماءاتها والتي علّق وجمّد آلياتها بانتظار رؤية ما إذا كان سيعيد الحزب النظر أو عدمه من التمديد العسكري على قاعدة أنّ ما بعد هذا التمديد لن يكون كما قبله أو على طريقة أعذر من أنذر.

وأمّا الأسئلة التي تطرح نفسها: هل باستطاعة عون الخروج من التحالف مع “حزب الله”؟ وهل انتفاضة عونية من هذا النوع قادرة على توسيع الهامش السياسي لـ”التيار الوطني الحر” أم تضييقه؟ وهل وقوفه في مواجهة “حزب الله” و”المستقبل” معاً قابل للاستثمار السياسي الوطني وتحديداً المسيحي؟ وهل خطوة من هذا القبيل تؤسس لتيار ثالث بين 8 و14 آذار؟

وهل يستطيع عون التغلّب على طبعه ونسج تحالفات وطنية تبدأ من بكركي وبعبدا ولا تنتهي بالمختارة؟ وهل اتعظ من تجربة التفاهم لجهة أنّ التوفيق مسيحياً بين التحالفات القصووية والوصول إلى السلطة غير ممكن إلّا في حال انتصار محور على محور أو احتكار التمثيل المسيحي؟

وفي الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها لا شك أنّ عون قادر على الخروج من تحالفه مع “حزب الله” طالما أنه لن يصل إلى حدود معاداته، والتجربة الجنبلاطية أكبر برهان، حيث يبقى الطرفان بحاجة لبعضهما بعضاً من دون أن يحمّل أي طرف الآخر أعباء التحالف وكلفته، فضلاً عن أنّ “بيضة القبان” في المعادلة السياسية كانت من نصيب عون لولا تحالفه مع الحزب، وباسطاعته بسهولة لعب هذا الدور مجدداً في ظل التوازنات القائمة، ويكفي في هذا الإطار العودة إلى الجلسة التشريعية التي لم تعقد بفعل غياب النصاب نتيجة المقاطعة العونية ولأسباب تختلف عن 14 آذار ومتصلة حصراً برفض التمديد العسكري، فيما مقاطعة 14 لها علاقة بآلية عمل السلطات وتوازنها.

ومن قال إنّ فك تحالفه المحلّي مع “حزب الله” سيفقده بالضرورة جزءاً من كتلته البرلمانية في الدوائر التي يرجح فيها الحزب الفوز، إذ يبقى عون بالنسبة للأخير أفضل من 14 آذار؟ ومن الواضح أنّ تجربة التمديد تدلّ على أنّ الرجل بدأ التعامل على أساس “القطعة”، هذه التجربة التي تؤسس لتيار ثالث بين 8 و14 آذار عبر نشوء كتلة وازنة تبدّي أمنها ومصلحتها على مبدئيتها فتكسر بذلك حدّة الصراع بين مشروعين وتوجّهين لمصلحة اللعبة السياسية التقليدية.

فعدم نشوء تيار ثالث، على رغم الكلام عن الوسطية التي صعد نجمها مع الرئيسين ميشال سليمان ونجيب ميقاتي والنائب وليد جنبلاط، سببه غياب التأثير العملي لهذا التيار الذي يحتاج إلى كتلة نيابية تستطيع بتموضعها ترجيح كفة على أخرى، وبالتالي إعادة عون تموضعه سيؤدي إلى خلط الأوراق الداخلية. ولكن لا شك أنّ جنبلاط سيكون أكثر المتضرّرين من هذا التوجّه في حال اعتمده عون، إلّا في حال تمكنا من إرساء تفاهم بينهما، الأمر الذي يبقى مستبعداً نتيجة اختلاف أطباعهما.

ويبقى أنّ عون تأخر من الخروج من التحالف مع “حزب الله” أكثر من أربع سنوات، إذ كان عليه أن يقدم على هذه الخطوة بعد انتخابات العام 2009 التي أظهرت تراجعه مقارنة مع استحقاق 2005 الذي مكّنه بفعل عوامل متعدّدة من الاستئثار بالتمثيل المسيحي مستعيداً تجربة الرئيس بشير الجميّل، مع اختلاف الظروف والتجربة، للوصول إلى سدة الرئاسة الأولى مستنداً إلى التمثيل المسيحي ورافعة “حزب الله” ومتكئاً على مبدأ الأكثر تمثيلاً الذي ينسحب على الطائفتين الشيعية والسنية في الرئاستين الثانية والثالثة، إلّا أنه بعد أن عاكست الرياح الإقليمية مخططاته وصحّحت الانتخابات النيابية الأخيرة حقيقة الواقع المسيحي المبني على التنوّع والتعدّدية وأسقطت حصرية الأكثر تمثيلاً، كان عليه أن يدرك أنّ رافعة الحزب لم تعد صالحة إلّا على قاعدة الغالب والمغلوب التي لا تشبه حقبة 1990-2005، كون الغالب هذه المرة سيكون محوراً على آخر، الأمر المستبعد ولا يقارن مع الفترة التي حكمت فيها سوريا لبنان بغطاء عربي-دولي.

فإذا كان تحالف عون مع الحزب في العام 2006 لا ينمّ عن قراءة خاطئة انطلاقاً من إقفاله الساحة المسيحية وتحالفه مع قوة إقليمية لإيصاله إلى سدة رئاسة الجمهورية، فإنّ استمراره في هذا التحالف بعد “الدوحة” وانتخابات 2009 كان الخطأ بحد ذاته، وذلك طبعاً من منطلق حسابات وأولويات عونية براغماتية لا سياسية مبدئية.

السابق
ماذا لو ظهر الاسير في عين الحلوة؟
التالي
سقوط حكم الحزب الديني .. عربياً