انقلاب يوليو 1952… محاولة مبكرة للحكم

سئل الزعيم الصيني ماو تسي تونغ ذات مرة عن رأيه في الثورة الفرنسية – بعد قرن ونصف تقريباً على حدوثها – فأجاب: ربما يكون من المبكر الحكم. بعد ستة عقود على انقلاب يوليو 52 الذي سمّي مجازاً بالثورة، يمكن تبني منطق ماو تسي تونغ لجهة الحكم المبكر، مع أن ثورة يناير طوت في الحقيقة صفحة الانقلاب التموزي، وأطلقت سيرورة نهاية حكم العسكر الذي استمر لستة عقود ليس في مصر فقط بل في معظم جمهوريات العالم العربي.
عندما وصل العسكر إلى السلطة في العام 52، كانت مصر تشهد حياة سياسية وحزبية نشطة: قطاع خاص وطني فاعل ومسؤول، مجتمع مدني، حراك نقابي، وإعلامي وحركة طلابية حيوية ومتنامية؛ وكان كل هذا نتاج لثورة 1919 السلمية العظيمة التي أفرزت دستور1923، الأفضل والأكثر تماسكاً انسجاماً وعدالة من معظم الدساتير التي وضعت بعده، ومع عدم تجاهل المشاكل والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عانت منها المحروسة آنذاك، والتي تبني العسكر في مواجهتها مقاربات فظة متشنجة ومنفعلة ما أجبر المصريين بعد ستة عقود فقط على النزول للشارع للمطالبة بالخبز – الحرية والعدالة الاجتماعية. في دلالة واضحة على الفشل الذريع للانقلاب كون هذه المطالب مثلت الشعارات الأساسية له كما للنظام العسكري الاستبدادي الذي انبثق عنه واستمر لستين عام تقريباً قبل أن يهب الشعب المصري ثائراً ضده.
فشل الانقلاب التموزي المركب، تبدى كذلك في العجز عن إقامة حياة دستورية بديلة ومؤسسات حزبية سياسية ووطنية راسخة، ما سهل للرئيس أنور السادات مثلاً أن ينقل البلد في اتجاه فكري سياسي اقتصادي اجتماعي معاكس، دون أدنى ممانعة من المؤسسات التي تكفل سلفه بتطويعها، تدجينها وتجييرها لصالح الزعيم والقائد؛ الوهن نفسه أتاح أيضاً وصول شخص مفتقد للمواهب والقدرات كحسني مبارك إلى سدة الحكم في أكبر دولة عربية ممارساً السياسة لأول مرة في منتصف عقده الخامس ومتبنياً توجهات كارثية أدت إلى انهيار شبه شامل في الاقتصاد، الصحة، التعليم والبنى التحتية، وتخلي تام لأرض الكنانة عن دورها الطبيعي والتاريخي، وانعكس انهياراً مماثل وحتى أكثر مأساوية في عديد من جمهوريات العالم العربي التي استنسخت نظام بالروح بالدم العسكري والاستبدادي.
في السياق العربي طرح انقلاب 1952 هدفين أساسيين: الوحدة العربية وتحرير فلسطين، وإلقاء اليهود الغزاة في البحر. بعد ستة عقود لم تتحقق الوحدة القومية، بل باتت الوحدة الوطنية أو القطرية نفسها مهددة نتيجة للسياسات الكارثية للناصريين الصغار، الذين أخذوا على عاتقهم إكمال مسيرة ناصر الأول خاصة في الحواضر الكبرى دمشق ويغداد الأكثر تأثّر تاريخياً بعاصمة المعز وأحوالها، كان العالم أحمد زويل محقاً عندما قال ذات مرة أثناء ثورة يناير لو أقام عبد الناصر نظاماً راسخاً يستند إلى الديموقراطية حكم المؤسسات، وسيادة القانون لعمّ ذلك العالم العربي كله، غير أن هذا للأسف لم يحدث، بل على العكس تم استنساخ النظام الانقلابي الاستبدادي في دول عربية عديدة، خاصة في الحواضر الكبرى دمشق وبغداد، إضافة إلى الجزائر ليبيا، اليمن والسودان، حيث الواقع أصدق أنباء من الكتب والدمار شبه شامل على كافة المستويات كنتيجة حتمية لسياسات الناصريين ثم القذافيين الصغار، وإصرارهم الأعمى والمتغطرس على النظام الأحادي الاستبدادي الذي أمّم كل شيء لصالح السلطة الحاكمة ثم خصخص ما أمّمه لصالح العائلة أو العائلات الحاكمة بعدما تحولت النظم الجمهورية إلى ملكيات مقنعة.
في السياق الفلسطيني، كانت إزالة أثار النكبة الأولى في العام 1948 أحد أهم مبررات وأهداف انقلاب تموز 1952، والتي تضمنت تطوير جذري لأداء الجيش، كي يكون مغايراً عما كان عليه في نكبة أيار وبما يكفل تحرير فلسطين وإلقاء الغزاة في البحر.
عقدين من الزمن لم يؤديا إلى تغيير جذري أو أداء مختلف للجيش ووقعت النكبة الثانية – 67 – التي أسموها "نكسة"، كي لا يستخلصوا العبر ويتحملوا المسؤولية المعنوية والسياسية، كونهم وصلوا إلى السلطة بذريعة ومبرر تجاوز النكبة الأولى، والتعاطي مع الثانية بشجاعة، صدق وشفافية. كان ليؤدي قطعاً إلى رحيلهم عن السلطة ليس فقط في القاهرة، وإنما في العواصم والحواضر الأخرى التي استنسخت تجربتها الانقلابية العسكرية.
قد يقول قائل إن الحكم على انقلاب 52 يتم الآن بنظرة معاصرة واستناداً إلى الواقع الحالي بأدواته ووسائله، ولكن هذا غير صحيح وببساطة يمكن بنظرة إلى الوراء العودة ليس فقط إلى تجربة الجنرال ديغول وفرنسا، وإنما إلى الهند التي لا تقل مشاكلها أزماتها وتحدياتها عن مصر إن لم تكن تفوقها بأضعاف والتي كان رئيس وزرائها الأول نهرو صديق شخصي لناصر حاملاً نفس أفكاره ورؤاه السياسية وأسسا معاً – برفقة تيتو – منظمة عدم الانحياز في باندونج 1955، ولا يحتاج الأمر إلى عظيم جهد لرؤية الفارق الهائل والكبير بين الهند ومصر، والذي يعبر في الحقيقة عن الفارق بين السياسات الداخلية للزعيمين، كما بين النظام الديموقراطي التعددي الذي تبنته الأولى والنظام العسكري الاستبدادي الذي اتخذته الثانية.
لا بد ومن قبيل الإنصاف، الإشارة إلى أن عبد الناصر اجتهد صادقاً ومخلصاً لتحقيق الخير النهضة الرفاه الازدهار لمصر والعرب، إلاّ أن الاختبار الأهم والأجدى هو اختبار النتيجة، بل النتائج التي أيضاً لا حاجة لعظيم جهد لرؤيتها في طول العالم العربي وعرضه في عاصمة المعز، كما في عاصمة الأمويين والعباسيين ومختلف العواصم الأخرى التي استنسخت تجربة ناصر وأسلوبه القيادي.
في الأخير وأي كان الحكم مبكر حسب منظور ماو تسي تونغ أو نهائي حسب منطق ثورة يناير فلا تباين في المضمون، فشل ذريع مأساوي وكارثي لانقلاب العسكر وطي لصفحته ليس في مصر فقط، وإنما في حواضر وجمهوريات العالم العربي الأخرى، رفع علم الاستقلال الاول في ميدان التحرير المتنقل من جمهورية عربية إلى أخرى؛ يعبر كذلك عن عودتنا ستين عاماً إلى الوراء إلى ما قبل انقلاب 52 والنقاشات الجارية الآن فى عاصمة المعز، كما في العواصم الأخرى عن طبيعة نظام الحكم الدستور التعاطي مع الأقليات القضية الفلسطينية النظرة إلى أنفسنا وإلى الآخر هي نفسها النقاشات التي أجهضها العسكر منذ ستة عقود لصالح نظرتهم الضيقة الفظة الأحادية والمتغطرسة والتي أوصلتنا إلى الواقع الكارثي الذي نعيشه الآن.  

السابق
ماروني: الامور عادت الى نقطة الصفر ولا تقدم على صعيد التاليف
التالي
منصور: من الجنون التفكير بإلغاء حزب الله من الساحة السياسية اللبنانية