بين إطفاء المحركات وتشغيلها

انطلق الرئيس المكلف تشكيل الحكومة تمام سلام منذ ما يقارب الثلاثة اشهر في مهمته متفائلاً. كان الدعم السعودي في حينه واضحاً عبّر عن نفسه من خلال حفلات التمهيد والغزل تجاه الخصوم لا سيما رسائل الود الى حزب الله التي تولاها السفير علي عواض العسيري إن من بيروت أو من المملكة حيث يقضي معظم أوقاته في الآونة الاخيرة. لكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن "الصفقة" التي عقدت في السعودية بإشراف رئيس مخابراتها بندر بن سلطان بعد نصائح واستشارات قدمها رئيس "جبهة النضال" وليد جنبلاط الى كل من السعوديين والحليف سعد الحريري، فلم يستطع الرئيس المكلف أن يقنع أحداً بأنه حيادي ولا استطاع أن يقدم تشكيلة من شأنها نيل رضا الأطراف السياسية.

تعقدت الأمور أمام كل الصيغ التي طرحها "بيك" المصيبة، في حين أن "بيك" المختارة الذي ورطه، لم يستطع تقديم أية مساعدة له. إلا أن العقدة الأساس تمثلت في ما حُمّل الرئيس المكلف منذ أبلغ في السعودية أن الأمور متجهة الى تكليفه بحيث يحصل على تأييد الغالبية النيابية، شرط الإلتزام بتوجهات حلفائه الذين ينتمي اليهم بعدم إشراك حزب الله في الحكومة بذرائع مختلفة كلها سقطت أمام تطورات الأوضاع لا سيما في سورية، وهو الأمر الذي كانت كل توقعات الفريق العربي – الغربي تشير الى عكسه والتي على أساسها قَبِل سلام بتكليفه. لكن الأمور جرت بما لا يتناسب مع فكرة استبعاد الحزب الذي أصر بداية على مشاركته باعتباره ممثَلا في المجلس النيابي بشكل وازن، وكما كل الفرقاء، له حصة في التمثيل، وزيادة أنه يريد ضمان أن الحكومة لن تعود الى الممارسة السلبية أي "العدائية" ليس تجاهه فقط وإنما تجاه محوره بالكامل، لا سيما سورية التي تخوض حرباً عالمية يعمل من يخوضها ضدها الى توظيف كل صغيرة وكبيرة للإنتصار فيها، ولعله من المعروف أن العين كانت منذ اللحظة الأولى مسلطة على لبنان لأهمية دوره في حسم المعركة.

أبلغ الرئيس المكلف بأن طريقه الى تشكيل حكومته يمر بـ"الثلث الضامن" أو "المعطل" وأنه لا سبيل الى الخوض بأية صيغة أخرى تحت أي مسمى و الا فلا حكومة. وأن بإمكانه أن ينطلق بحكومة من دون الإلتفات الى هذا المطلب إذا ما أراد ذلك، ولكن على كامل مسؤوليته حيال كل القرارات التي تتعلق بالقضايا الإستراتيجية وكيف يمكن قراءتها من موقعه السياسي، إذ أن حكاية "النأي بالنفس" لم يستطع من أطلقها الإلتزام بها بحيث كانت خاضعة للتجاذبات والضغوطات من قبل ذلك. وهذا يعني أن على الرئيس المكلف أن يتوقع أية ردة فعل على الأرض مع ما يعكسه ذلك من ارتدادات قد تصل الى حد الإقتتال والتحارب الداخلي إذا فلتت الأمور من عقالها، ناهيك عن أن دور بعض اللبنانيين في الأزمة السورية كان يُغطى من قبل حكومة تدعي انها تنأى بنفسها عن الصراع وإذ برئيس حكومتها ينغمس بتغطية بعض المرتكبين وحماية بعض الجماعات في تحركاتها بحجة تجنب المشاكل الداخلية والنزاعات المذهبية.

توقف سلام عن نشاطه بين إدارة المحركات وإطفائها، ليس بسبب البحث عن مخرج للسلطة التشريعية وعقدة قانون الإنتخاب الذي كان واضحاً حتى لمن عقد الصفقة في السعودية أن الانتخابات لن تحصل في ظل الظروف الحالية، كما أن المسافة شاسعة بين الأطراف للتوافق على قانون انتخابي، يؤمن صحة وعدالة التمثيل بين ليلة وضحاها، قد تفرضه الظروف الإستثنائية، وإنما من واقع أن الأزمة السورية المستفحلة قد طغت على كل ما سواها تحديداً في لبنان حيث يرمي العالم بثقله لمعرفة الإتجاه الذي سيسلكه هذا البلد الصغير في أكبر أزمة تشهدها المنطقة منذ أكثر من 6 عقود تاريخ نشوء الكيان الصهيوني فيها.

هنا لا بد من الإشارة الى الدور الذي اضطلع به حزب الله على مستوى المنطقة بعد الحرب "الإسرائيلية" على لبنان وانتصار الحزب ومحور المقاومة فيها. فقد باتت هذه الأخيرة لاعباً أساسياً في صراع الشرق الأوسط أي بين العرب و"إسرائيل"، وهو ما لا يريده الحلف الغربي – العربي – العبري، فكانت الحرب على سورية علّها تغير في موازين القوى و"توازن الرعب" الذي نشأ بفعل نتائج حرب العالم 2006.

وفي هذا السياق فإن أية قراءة ينطلق منها أي رئيس مكلف تشكيل الحكومة في لبنان وتكون مغايرة لتلك الحقيقة لن تقوده إلا الى الفشل وربما الصدام السياسي والأمني.

إن تحرك الرئيس المكلف الأخير لا يعبر عن أنه فهم الرسالة جيداً، فيما تقضي الأوضاع القائمة أن عليه الحذر مما قد يُدفع اليه من خيارت قد لا تراعي المصلحة الوطنية التي رفعها شعاراً لحكومته العتيدة، فالمواقف التي تصدر من هنا وهناك في المواقع المختلفة في الحكم وسائر الأفرقاء السياسيين لا توحي بأن المعطيات التي تجري على أرض الواقع تُقرأ بشكل صحيح، إذ أن عاصفة من الغبار اطلقت للتعمية على انجازات قد تكون هي صاحب القرار الأساسي في صياغة أية حكومة مقبلة بعدما استطاعت القفز على استحقاق الإنتخابات وما كان يمكن أن تؤدي اليه من تداعيات غير محسوبة.

لعل ردة الفعل الدولية وآخرها ما صدر عن مؤتمر "أصدقاء سورية" في الدوحة، على تدخل حزب الله في سورية لا سيما في معركة القصير، هي في الحقيقة كانت حول النتائج التي حققها أكثر من واقع التدخل بعينه، فقد وجد التحالف الغربي – العربي – العبري نفسه مضطراً الى رفع السقف الى أعلى مستوى ممكن عبر التهديد والوعيد والتسليح وتقديم الدعم لمواجهة تلك النتائج التي تعتبر كارثية من حيث المفاعيل السياسية لها، خاصة إذا استكملت بالقضاء على معاقل للإرهاب مشابهة للقصير، وهو على الأرجح ما أرخى بثقله على المواقف في لبنان إن في رئاسة الجمهورية أو حيال إعادة تشغيل المحركات في المصيطبة، لكن ذلك لا يعدو كونه قراءات غير دقيقة للأوضاع التي ربما استدعت في المستقبل القريب المزيد من الخطوات لفرض الخيارات لا التفاوض بشأنها.

ما تقدم هو ما حمله المبعوثان الجنبلاطيان الى السعودية لتصحيح مسار الورطة الجنبلاطية نفسها في المكان الذي انطلقت منه، أي إما الخضوع لمنطق "الثلث الضامن" وإطلاق حكومة تقي مرحلة فرض الخيارات، أو إبقاء الحال على حاله وتحمل تبعات انطلاق كرة النار من لبنان في كل الإتجاهات.

السابق
اسامة سعد: لا نريد لفلفة الاحداث بصيدا كي لا يتم تكرار الاشكالات
التالي
لماذا لا يضغط المسيحيون نحو تأليف الحكومة؟