القصير من بعيد

من بعيد، ترى الأشياء ملتبسة ومشوشة. من قريب لا ترى شيئاً تقريباً. مدينة القصير، من بعيد، من المغرب مثلاً، ومن مدينة تطوان تحديداً، تظهر على أنها مدينة سورية. من لبنان، تظهر وكأنها بلدة لبنانية. فمن قريب لا ترى شيئاً على حقيقته، وخصوصاً في لبنان.

لعلها حالة سوء رؤية أكثر مما هي حالة سوء تفاهم. فلكل رؤيته على هواه، ولكل هوىً لغته وصفاته وأوصافه ومشهديته كذلك. فالقصير، تخرج من الجغرافيا قليلاً، وتدخل في نصاب الهوى، كأن تقول: «تحرير القصير» أو، «سقوط القصير» أو «تطهير القصير» أو «انتصار القصير» أو «هزيمة القصير». كل ذلك يقال بلغة تعبر عن مدينة، لا شكل لها خارج الانقسام، ومنفصلة عن مشهدها الحقيقي.

من بعيد، تحذف اللغة وتعاين المشهد كما تنقله وسائل الإعلام، بغير حيادية، وبانتقائية مقصودة. في الحالتين تبدو القصير ركاماً على ركام، قفراً على قفر، قاعاً إثر صفصف (safsaf). تبحث عن بشر، فلا ترتطم إلا بحجر. لا ناس في المدينة. الحرب عندما تحضر أو عندما تندلع أو عندما تنتصر، تحصي الخراب، ولا تقيم وزناً للنفوس… المشهد في القصير كان بلا بشر. مدينة مقتلعة من ناسها. ترى، أين هم؟ هل أكثرهم تحت التراب أم بحثاً عن تراب آمن.

من بعيد، لا تنتمي، بل تبحث عمن تنتمي إليه، ولا تجده.

هل جائز هذا الكلام، والقصير مفتاح المعارك الكبرى في سوريا، وبدء التحولات الدرامية المحسوبة؟ هل جائز إقصاء «السياسة» عن مآلات المدينة. طبعاً لا. انما، لا بد من تصويب النظر إلى البؤس الإنساني الباهظ، إلى البشر الذين من لحم ودم وعقل وأحلام. لا بد من البحث عن الكلفة الشريرة، والآلام القاتلة. لا بد من تكثيف التطلع في الفراغ الذي يملأ ساحات القصير: هذه مدينة باتت بلا أهلها، ولقد سرقت منهم ذات مرة، ولما استعيدت، ما كانوا فيها.

هل جائز هذا الكلام؟ مريع جداً ان نحذف الضحايا، هكذا بشحطة قلم أو بـ«زوم» منحاز، ونفرز الكلام بارداً، في السياسة والاستراتيجيا والمحاور والطوائف والمذاهب. نعم، هي معركة حاسمة بكلفة غير محسوبة: «لقد تحررت القصير، وبدت مدينة قتيلة. تحررت الشهيدة. وليس على أبوابها وجدرانها مكان لشهادة». كأن نقرأ مثلاً: «هنا ترقد مدينة، أو هنا استشهدت القصير».

ولكنك مطالب بموقف. اللاموقف خيانة مزدوجة. معسكر النظام يرى في المدينة بوابة للعبور لهزيمة «المشروع الأميركي الصهيوني التكفيري». حسناً. قد يبدو ذلك صحيحاً في السياسة أو في المدى الجيوستراتيجي. ويمكن البناء عليه سياسياً وعسكرياً، ويمكن توظيفه في جنيف الثانية أو… الرابعة أو… هلم جرا. لكن المشهد لم يحمل لنا أسماء القتلى «الأميركيين والصهاينة» فهؤلاء لا يقتلون. أما «التكفيريون» فليس لهم أو عليهم أمان. المشهد يؤكد أن هناك قتلى مكتومين، وقتيلة معلنة: القصير.

أيضاً، هذا كلام غير مسؤول. يلزم ان تحدِّد موقفك، على عادة الحروب: إما مع وإما ضد. أنت مع من وضد من؟ وإذا عجزت فأنت مراوغ، ولديك حسابات خاصة. ويطيب للبعض ان يتهمك بما يشبه الخيانة، على قاعدة الحساب: إما أنت مع الثورة السورية، ولا تحتج عليها بالتكفيريين، وإما أنت مع النظام، ولا تحتج عليه بالاستبداد، هكذا يصار إلى الإنصاف السياسي. كأن المسألة حسابية مجردة، أو لا حياد فيها.

الواقع ليس كذلك. المسألة لم تعد بالإقناع، بلا بالأثمان المرعبة. ولقد مررنا نحن اللبنانيين، بما أسميناه الحسم والعزل والحرب. ولقد فزنا جميعاً بالخسائر المكدسة، فخسرنا المبادئ والشعارات والقضايا، وبات لنا رصيد تاريخي من الركام والضحايا والمفقودين والمشوهين واليائسين. لقد قتلت الوطنية اللبنانية، ونهضت الطوائفيات على جثثها. سقطت المبادئ وفازت الحرب، وتم تتويج أمرائها، بناة للخراب السياسي الراهن. زعماؤنا، أمراء حرب كانوا، وضحاياهم بقينا، على قيد الموت السياسي.

للقصير في لبنان أخوات: الدامور، من يتذكرها. النبعة من نسيها؟ بحمدون نيتكم! تل الزعتر؟ شرق صيدا؟

أنا منتمٍ للقصير التي انضمت إلى أخواتها في لبنان. كضحية، كشهيدة، وليس كموقعة عسكرية. سيغضب هذا الكلام أصدقاء الروح. قد يغضب أصحاب القضايا النبيلة. هذا طبيعي. قد نعود إلى جادة السياسة، وما تبقى فيها من صواب، ان هنا أو هناك أو هنالك. (الصواب ليس ملكاً لأحد. الصواب ملك من ينتصر. فبئس هذا الصواب!) قد نعود إلى التفكير السياسي المحسوب، ونقيّم من كسب الآن ومن سيخسر غداً، وما موقع إسرائيل وأميركا وقطر والسعودية، وما حسابات النظام وإيران وموسكو و«حزب الله». قد نعود إلى ذلك في ما بعد، بعد أن نكون قد امتحنا واجباتنا البشرية. في إبداء الحزن اللاحق لبشر يشبهوننا في كل شيء، سوى انهم سبقونا إلى الموت بسرعة وبأعداد غفيرة.

من بعيد: ترى القصير وتشهق.

من قريب: لا حاجة للكلام. فاللبنانيون شاهدوا «الأعراس» وحضروا «الجنازات»، وكان كل واحد وفيّاً لفسطاطه القديم.

كان يمكن ألا يكتب هذا الكلام. كان من الواجب التزام الصمت أو التزام الانحياز. غير أني فضلت، ولو لأيام، ان أكون واحداً من تلامذة ذلك العالم الذي اعتزل الصراع بين الفرق الكلامية الإسلامية.

ان تكون معتزليا اليوم، هو ان تكون مع القصير وناسها، فقط لا غير. وغداً، يوم آخر

السابق
8 آذار تعمل لفراغ يفرض تعديل الطائف
التالي
لبنان في أسوأ أيامه