بين العالم المدني والعالم الافتراضي

في الأيام القليلة الماضية، نزل آلاف المتظاهرين الأتراك إلى ساحة تقسيم في إسطنبول، والسبب: رفض تحويل حديقة غازي إلى مجمّع تجاري. أمر شبيه حصل منذ سنتين تقريباً هنا في لبنان. حديقة الصنائع التي احتضنت جيل ما بعد الحرب بأكمله، أريد لها أن تهدم، لتتحول إلى مرأب للسيارات. المشروع لم ينفذ، والحديقة على غرار تلك التي في إسطنبول، لا تزال قائمة، حتى وإن لم يكن إيقاف المشروع نتيجة غضب عارم انتاب اللبنانيين كما حصل مع الأتراك. وقتها، اقتصرت الأصوات والتحركات المعترضة على عدد من الناشطين، واهتمام إعلامي لا يتعدى تكرار المعزوفة ذاتها عن إهمال الدولة ولا مبالاتها بذاكرة مدينتها وناسها.
المقارنة بين الحادثتين ليست في مكانها ربما، لتركيا ظروفها وللبنان ظروفه أيضاً. حسناً، حديقة غازي في إسطنبول، لم تكن سبب كل هذا الغضب. يقولون إنه نتيجة لتراكمات ولّدتها انتهاكات وتجاوزات مورست من قبل فئة حاكمة منذ توليها السلطة في العام 2002. هنا، هموم ومشاكل تكفي اللبنانيين. في يوم اعتصام المتظاهرين الأتراك نفسه، حدث آخر كان يحصل هنا في لبنان. نواب الأمة نزلوا بكامل أناقتهم إلى البرلمان، في وسط البلد، للتمديد لأنفسهم سنة ونصف السنة، بذريعة تعذّر إجراء انتخابات نيابية في ظل الأوضاع الأمنية الراهنة. كان لا بد إذاً من تحرك احتجاجي، أخذت "الحملة المدنية للإصلاح الانتخابي" على عاتقها الدعوة إليه، بالتنسيق مع عدد من الجمعيات الأهلية والناشطين. أمل البعض أن يكون الاحتجاج شرارة لحراك جدي، بعد تراكمات وانتهاكات مارستها الطبقة السياسية لسنين طويلة. والنتيجة: استجابت الحملة والجمعيات المنسقة معها… فقط.
حضّر المعتصمون أنفسهم في هذا اليوم، اشتروا ما توفّر من "البندروة" لرميها على صورة كبيرة وضعت عليها وجوه النواب. تعود الفكرة إلى مجموعة "شمل"، وتحديداً إلى الناشط فيها مازن أبو حمدان، الذي يلفت إلى دعم صاحب محل الخضار، حين أطلعه على سبب شراء هذه الكمية. يقول أبو حمدان إن التحرك كان يهدف إلى استحضار غضب شعبي مما جرى، لكن لم يتحقق ذلك. صاحب محل الخضار نفسه، اكتفى بتقديم دعم معنوي للـ"شباب"، بينما كان يعدّ رزقاً هطل عليه من حيث لا يدري. استحضار أبو حمدان لدعم "الخضرجي" كنموذج للتأكيد على أن أغلبية الناس تناصر هذه المطالب، أما السبب وراء عدم المشاركة فيعود إلى حالة الإحباط المسيطر على الناس. لكن الحملة لن تتوقف، بحسب الناشط، وابتداء من 20 حزيران الجاري سيتم التعامل مع كل نائب على أنه منتحل صفة. كيف سيواجه؟ "سنرمي عليه البندورة، حتى لو حطنا بالحبس".
التحرك حظي بتغطية إعلامية لافتة، وأحدث صدى واسعاً بالفعل، إنما على مواقع التواصل الاجتماعي التي حفلت بشعارات مناصرة للتحرك… والبندورة معاً. لكن الإنجاز الوحيد الذي تحقق اقتصر عند هذا الحد، أو ربما أيضا: "إجبار النواب على تغيير طريقهم للوصول إلى المجلس"، بحسب حمدان.
التحولات الكبيرة غالباً ما تحصل نتيجة حدث صغير، ينبئ بانطلاق موجة تصاعدية. في التحرك الاحتجاجي على التمديد، حصل أمر مشابه، إلا أن تداعياته انحصرت بصغر الحدث نفسه. التحرك كان يهدف إلى رمي "البندورة" على صورة النواب فقط، إلا أن قدوم موكب أحد النواب مخالفاً وجهة السير، وضعه في شرك المتظاهرين. "من قذف بأول بندورة؟". تحوّل السؤال إلى لغز، وبدأ الناشطون تناقله، وكأنه سيكون شرارة لانتفاضة قيد التشكل. بعيداً عن المبالغة، وحماسة اللحظة، لم يراهن معظم المشاركون على امتداد رقعة الاحتجاج. الناشط في "الحملة المدنية" سامر عبد الله يؤكد ذلك. الأسباب عديدة، يحاول توزيعها بالمناصفة بين المجتمع المدني وعموم الناس. هناك فقدان للتواصل بين الجمعيات والمجتمع. بالنسبة له، نشاطات الجمعيات تحتاج إلى التطوير لتعزيز التواصل وحث الناس ونشر الوعي حول أهمية المشاركة في تحركات كهذه. يردد مرارا "لازم… ولازم…". لكن المشكلة ليست أحادية الجانب. فبحسب عبد الله "الناس صرلها فترة عرضة لممارسات سياسية عامة تعزز الزبائنية، مما يصعب على المجتمع المدني التواصل معها"!
بدوره، يردد منسق الحملة روني الأسعد اللازمة نفسها "لازم… ولازم"، مشيراً إلى ضرورة مواصلة تطوير أشكال التحركات، معترفاً بأن عددا كبيرا من الشعارات والمطالب التي تتحرك لأجلها منظمات المجتمع المدني تبدو نخبوية بظاهرها رغم مضمونها المحق. يسترجع هنا مثال "الخضرجي": "مش رح تفرق معه الكوتا النسائية مثلا".
يذهب الناشط في الحملة عدنان ملكي أبعد بما يتعلق بالشعارات النخبوية التي تطرحها جمعيات المجتمع المدني عادةً. يستذكر قانون منع الصيد الذي عملت جمعيات عدة على إقراره، والشعارات المناهضة له: "قتل مئات الناس وجهة نظر وقتل عصفور على شجرة جريمة لا تغتفر". الحادثة، برأيه، ليست إلا برهاناً على ابتعاد هذه الجمعيات عن مزاج الناس عموماً. لكن القانون أقر، وهو إنجاز بحد ذاته. والإصلاح في النصوص، قبل النفوس، هو الوسيلة الأنسب ربما، حتى لو لم يطبق القانون المقر.
ملكي الذي يعتبر أن التمديد أقر على جثث الضحايا في طرابلس، يعتبر أن نخبوية الشعارات لها تأثير على المدى الطويل، حتى لو لم تستقطب معها تأييداً جماهيرياً واسعاً. يستشهد بذلك على عدم إقدام أي مسؤول أو زعيم سياسي على التلويح باللائحة التي سيقترع بها، كما كان يجري في السابق. "الآن الجميع مجبر على الاقتراع خلف الستارة السوداء". مطلب الانتخاب وفق قانون نسبي مثال آخر. "في السابق كان الحديث عن النسبية بمثابة الحديث عن العلوم النووية، والآن يتم تداولها بجدية".
بعيداً عن اعتبار ذلك انجازات حقيقية، في الاقتراع خلف الستار في انتخابات معروفة النتائج سلفاً، أو اختيار قانون نسبي على مقاس جميع الأطراف، يبقى استشهاد ملكي بدراسة أعدتها مؤسسة "آراء" حول موقف اللبنانيين من التمديد، دليلاً واضحاً على الهوة بين مجتمعين: واحد "مدني" وآخر "عادي". فنتائج الدراسة كشفت أن 60 في المئة يرفضون التمديد، في حين حضر منهم مئة شخص فقط للاحتجاج عليه.
إلى جانب تحرّك "البندورة"، أقدم ناشطون على خوض الانتخابات على طريقتهم، وإن بشكل رمزي. 8 مدونون اختاروا تشكيل لائحة بعنوان لائحة "أبيع نفسي"، للترشح افتراضياً، ودائما على شبكات التواصل الاجتماعي. رمزية التحرك وعدم تحقيقه أي نتيجة مباشرة على الأرض، أمران لا ينفيهما علي فخري، أحد مرشحي اللائحة. يقول إن الهدف لم يكن إحداث التغيير الآن، بل إحداث صدمة إيجابية في الوعي العام حول ما آلت إليه الأمور.
حركة، رغم احتمال تأثيرها، أبقت المناصرين لها في حدود العالم الافتراضي، وحركة احتجاج أخرى على أرض الواقع بدت عاجزة عن تجاوز حدودها "المدنية". في تركيا، نزل آلاف المتظاهرين لمواجهة قوات الشرطة، رفضاً لمصادرة حديقة، أما هنا، فقد فاق عددُ النواب وعددُ مرافقيهم، عددَ المعتصمين ضد التمديد رفضاً لمصادرة بلد بأكمله.

السابق
انطلاق معركة الانبعاث الوطني للاعتراف بالأسرى كأسرى حرب
التالي
الجمعية الوطنية الباكستانية تنتخب نواز شريف رئيس وزراء