حيث المدن التي لا تلتقي

تتداخل القصص في العالم الافتراضي. تنفلش أخبار المناطق على بعضها. لا فرق. يجد المتابع القليل من كلّ شيء. أخيراً، عاد التوتر إلى المحاور اللبنانية بكاملها. فعليّاً هي لا تهدأ، لكنها للـ"مصادفة" يحدث أن تشتعل في لحظة واحدة. وعلى نفس الوتيرة تنساب التعليقات الافتراضية.
الأسبوع الماضي، لم تكن طرابلس على ما يرام. كعادتها، قتلى وجرحى ومحاور مفتوحة. جبل محسن وباب التبانة، صور أطفال يقاتلون، رصاص قنص وضحايا تصادف مرورهم مع ساعة جنون عسكريّ. ما يهمّ ليس هنا. ما يهمّ في مكان آخر. سكان مدن هذا البلد لا يعرفون شيئاً عن أحوال بعض. تصلهم الأخبار بقسوتها وعنفها ورعبها، وهم يبادرون بردّات فعل عادية مكرّرة ومتشابهة.
جنوباً.. انشغال بالـ"شهداء"
في النبطية حياة أخرى. قرى المنطقة مشغولة. لا تصلها أيّة أخبار من خارج نطاقها. أبناؤها "الشهداء" في تزايد. لذا المهمة تصبّ في إطار واحد لا غير. الأغلبيّة، جنوباً، تعيش صراعها في سوريا. دفعات "الشهداء" تأتيهم لتفصلهم عمّا يجري في أي مكان آخر. لا تُسمع أخبار طرابلس هنا. هي فقط لافتات صفراء تحمل أسماءً وعبارات ممجّدة. مواكب تشييع تظهر بكثرة. تغصّ الطرقات ناساً وقبضات مرفوعة وتابوتاً يحمل شاباً، سيُقال يوماً ما أنه مات خلال معركة في سوريا. في إحدى القرى وصل خبر أحد الشباب صباحاً. استنفرت القرية. في هذا الصباح، تحديداً، كانت طرابلس تستيقظ من ليلة حادّة. وصفها المتابعون بأنها الأقسى منذ سنوات، امتلأت السماء فيها بالأصوات والأضواء. لكن هنا، في هذه القرية الجنوبية، صحا الجميع على صوت مختلف تماماً. من المئذنة علا الصوت المنادي باسم "الشهيد الشباب". لحظات وتشكّل مشهد منسجم بكليّته مع الحدث.
في النبطية تزداد المجموعات المرتدية للسواد. كذلك يستمرّ الانسياب الطبيعي للحياة. في أحد المحال التجارية، تنشغل بضع فتيات باختيار الإكسسوار المناسب لسهرة الليلة. محاولة سؤالهنّ عمّا يجري في طرابلس انتهت بإجابة واضحة "أنو دخيل الله"، لا يشغلن بالهنّ بما يجري في تلك البقعة. حيّدوا أنفسهنّ، فهنّ لا يسمعن الأخبار وتالياً لا يعرفن أي تفصيل. يحزنهنّ سقوط "الشهداء"، لكن هذا لا يلغي سعيهنّ للفرح والمرح. حجتهنّ أن "الكلّ جايي دوروا".
يشكو أصحاب المحلاّت من قلّة الرواد. عند سؤالهم عن السبب، لا يعرفون الإجابة. يهزون رؤوسهم في محاولة للإيحاء بـ"ضياع الطاسة". فلا شيء واضح والأمور متداخلة. موقف "الفانات" في النبطية يحمل كل ما يجري في المدينة ومحيطها. هنا تحطّ الأخبار بكليّتها. عند زيارة الموقف، لا سماع لصوت معارك طرابلس. في السياسة تقيم سوريا وحدها هنا. من خطاب نصر الله إلى معارك القصير وصولاً إلى اسم آخر "الشهداء".. يتداولون الحكايا عن ردّات الفعل السعيدة لعوائل "الشهداء".
في أحد الفانات المتجهة إلى بيروت، يكتم السائق صوت الراديو. يطلب منه راكب رفع الصوت علّهم يعرفون ما يجري. يردّ بابتسامة سريعة خاطفة بعد لصق عيونه بالمرآة. يخبره أن لا شيء على الطريق، وألاّ يقلق. سالكة وآمنة. "نحن نجري اتصالاتنا قبل الانطلاق". ولمزيد من الاطمئنان، يُسرّ له بأنّ "الأسير ما تخاف منه، الرجل صوت بلا فعل". هزّ الراكب رأسه غير فاهم لما يسمع.
تنويعات في بيروت
في العاصمة، لا هوية محدّدة. ما هو حتميّ هنا هو غياب طرابلس، إلاّ في ما ندر. في الضاحية مشاهد شبيهة بما يجري جنوباً. يحيا السكان في معارك القصير. لكن هذا لا يلغي أيضاً استمرار مسيرة الحياة طبيعية، مع تغيّرات عديدة. في الليلة التي سبقت سقوط الصاروخين على الضاحية الجنوبية، بدت مدينة خالية من معالمها الطبيعية. في محيط كنيسة مار مخايل عدد مستجدّ من المقاهي، التي تمتلئ عادة شباباً. في تلك الليلة فرغت من روادها. قليلون حضروا مصرّين على المواظبة كعادتهم اليوميّة.
في الطريق إلى برج حمود، ينشغل سائق السرفيس بالشرح لركابه عن مواقيت الصلاة. مذيع الراديو يشرح عن معارك طرابلس وأعداد الجرحى، بينما السائق يزداد حدّة في كلامه. عين على الراكب في المقعد الخلفيّ وأخرى على الراكب إلى جانبه. يريد إفهام الطرفين أن الله كتب لنا النوم ساعتين فقط في اليوم. وهكذا لا بدّ من قيام الليل صلاةً وتعبّداً. مع انتهاء الموجز الإخباري كان السائق قد انتقل إلى تفاصيل الحياة في الجنة والنار. حذّر ركابه من الوقوع في الحرام، مشيراً بيده إلى الراديو وإلى ما يأتينا من موت في كلّ من طرابلس وسوريا.
بالقرب من السفارة الكويتية، تنتظر فتيات ثلاث باصاً يُقلّهنّ إلى وجهتهنّ. واضح من لباسهنّ والشنط التي يحملنها أنهنّ في طريقهنّ إلى البحر. لا يكترثن بكلّ ما يجري. ما يُردنه هو الترفيه عن أنفسهنّ. لا بأس بشمس وبحر وسمرة وابتعاد عن الأخبار الأمنية.
ليلاً تستمرّ الحياة طبيعية في بيروت. لا تلغي أحداث طرابلس بعض الخوف. يفضّل كثيرون العودة الباكرة إلى المنازل. لا أحد يدري ما قد يحصل. تصلهم إلى بيروت تفاصيل الموت والقتل. لا يكترثون بها. المطاعم والمقاهي والشوارع مستمرّة مع ناسها وسهرها. في الوقت نفسه الذي يرزح فيه سكان طرابلس تحت أصوات المدافع والرصاص، تعلو أصوات الموسيقى من الحانات الليلية.
يتوقّف شاب إلى جانب أمّ وأولادها نيام على جنب الطريق، "رامياً" لهم خمسة آلاف ليرة لبنانية. يُكمل طريقه باتّجاه صديقته ليدخلا معاً إلى إحدى حانات الحمراء. في الوقت نفسه ربما، تعمل إحدى العائلات في طرابلس على إغلاق نوافذها وإبعاد الأولاد عن الزجاج. مشهدين متباعدين في بلد واحد.
سهر.. في الشمال
من اعتاد ممارسة هواية "التشفيط" بسيارته على أوتوستراد المعرض الخارجي، الموصل إلى بيروت، والتباري في ذلك مع سواه، يوم الأحد تحديداً.. ما زال يفعل، رغم أصوات الرصاص. يقول "بعيدة"، "على المحاور" التي تصبح قارة أخرى. مدارس طرابلس مقفلة. طلاّبها يلتزمون بيوتهم. وكذلك يفعل أولاد المناطق المحيطة، المسجّلين في مدارس المدينة. وأما المنية وعكار فسكانها يبقون حيث هم في أيام القنص والاشتباكات، لأن طريقهم عبر طرابلس شبه إجبارية. أهالي زغرتا أوجدوا طريقاً آخر مستقلاً عن طرابلس يسلكونه، وأسواقا بديلة لقضاء حاجياتهم.
في زغرتا، رغم كلّ ما يجري، يبقى الجوّ العام متّجهاً نحو "المهم ما يوصل شي لعنّا". فليفعل "الطرابلسيون" ما يرغبون به. يستمرّ النادي الليلي الوحيد في المدينة باستقبال زواره. يكتظّ بالشباب الساعين إلى السهر والمرح. لا يبدو، مع أول الليل، أن البلدة تتأثر بما يجري من حولها. غالباً ما تحتاج حجزاً للدخول إلى هذه الحانة. لا إلغاء للسهرات الخاصّة. كلّه يسير على عادته. فقط تأفّف شبابي من ضيق الحال. يريدون يوميّات أكثر سلاسة وسهولة.
كلٌّ مشغول بخصوصياته. لا ارتباط يجمع بين أهل أنحاء لبنان. أمر ليس غريباً عن هذا البلد الذي اعتاد "تنوّع" الحال!

السابق
اعمال عسكرية للعدو في جبل الشيخ
التالي
اضرب يا جيش لبنان