مَن يتذكّر الأول من أيار؟

في خضم منطقة لا تزال تغلي بالحراكات الشعبية والقتل اليومي، وبدء موسم قطاف الكيميائي، وتزحمها المناسبات والاجتماعات الإقليمية والدولية والأزمات الوزارية، ومعارك السلطات مع القضاء، واجتماعات كيري ووفد الجامعة العربية لإحياء المبادرة العربية، ولو بقلب معادلتها، والدعوة للمرة الألف لاستئناف المفاوضات الفلسطينية، واعتراف «حزب الله» للمرة الأولى بأنه يخوض قتالاً الى جانب النظام السوري في مناطق تتداخل فيها الحدود والطوائف.
يحلو، مع ذلك، الاحتفال بعيد الاول من ايار، عيد العمال.
حقيقة الامر ان العمال ونضالهم وقضاياهم وطموحاتهم وآمالهم في قلب الثورات. فقد انطلقت الثورات من تحركات جماهيرية احتجاجا على سياسات التقشف وإلغاء الدعم على المواد الغذائية والمحروقات او من اضرابات واعتصامات تتعلق بالعمل والحقوق والحريات النقابية العمالية.
يبدأ المسلسل من اول تحرك في تونس الى الاخير في السودان وفلسطين والاردن مرورا باليمن والمغرب والبحرين. تفجّرت الثورة المصرية بعد سلسلة من النضالات والاضرابات والاعتصامات العمالية وفي امتداد تضامن شعبي مليوني مع نضال العمال. ولعب العمال المنظمون في «الاتحاد العام التونسي للشغل»، وفي فروعه المناطقية خصوصا، الدور الحاسم في إطلاق وتنظيم العملية الثورية التونسية والتنسيق بين قواها ومكوناتها، ولا يزال عمال تونس يواصلون النضال، الى جانب قطاعات واسعة من الشعب، لمنع المصادرة والردة ومن اجل اهداف الثورة.
ومع ان سوريا هي البلد الوحيد الذي لم تبدأ فيه الانتفاضات من قضية اجتماعية، الا انه البلد حيث للثورة اعمق حاملة اجتماعية حرّكت الاطراف والارياف، بمنتجيها من عمال زراعيين وفلاحين ومزارعين وحرفيين وبالعاطلين عن العمل والمهمشين ايضا، مثلما حركت سكان الضواحي والعشوائيات والفقراء المدينيين وقطاعات واسعة من الطبقات الوسطى.
لذا فالاول من ايار مناسبة للتذكير ليس فقط بالحوامل الاجتماعية للثورات وبشعارها المركزي «عمل، حرية، خبز» وانما ايضا وخصوصا بقطاعات من الشعب والثورة يجري طمس حقوقها والمصالح والتطلعات، حتى لا نقول انه يجري تجاهل وجودها ذاته، في خضم تلاطم الثقافويات والهويات القاتلة.
والاول من ايار مناسبة لتذكير الذين ينصبّون الحرية في وجه الخبز بأنهم يتناسون ان اسرع طريق لاغتيال الحرية هو إهمال الخبز، وان «الفقر اذا جاع بياكل الملك »، على ما ورد في المسرحية الرحبانية، اكان الملك من سلالة ذوي النفط والغاز او ذوي الجزمة العسكرية والمافيات والعسس.
والاول من ايار مناسبة لتذكير الذين يستخفون بالديموقراطية، بإسم العمال والمصالح العمالية، ان الديموقراطية هي النظام السياسي الذي يتيح اقصى قدر ممكن من التعبير عن مصالح العاملين، ويشركهم في القرار السياسي، وان الديموقراطية من دون هذه الوظيفة تفقد مبرر وجودها وتخلي المجال لشتى المغامرات الفاشية والديكتاتورية.
والاول من ايار مناسبة لاستحضار مصالح العاملين وتطلعاتهم والآمال عند البحث في الحقوق والحريات الديموقراطية. فحقوق الانسان تصير حقوقا للانسان عندما تشمل نواحي حياة الانسان كافة وتوفر للبشر عموما الحد الادنى من متطبات الحياة الحرة الكريمة. اي عندما تتحرر تلك الحقوق من الاحتكار النيوليبرالي الذي يختزلها بالحقوق والحريات الفردية والشخصية، فيجري استكمالها وردفها بسائر الحقوق في الماء والخبز والسكن والصحة، الوقائية والعلاجية، والبيئة النظيفة والتكافؤ في فرص التعليم. وهذه جميعها تحط الآن العين النيوليبرالية عليها قصد تسليعها وخصخصتها وإخضاعها لمنطق الربح والملكية الفردية. ثم ان الحريات كلها تثمر وتزدهر وتنمو عندما تتحرر من سطوة المال ورأس المال، وفي المقدمة منها حرية القول والتنظيم والإعلام.
والتذكير بالاول من ايار هو المناسبة للتعبير عن مدى حاجة القوى العاملة لمن يمثلها ليس في مجال التنظيم المهني والنقابي، وانما ايضا في المجال السياسي.
والتذكير بالاول من ايار، وقد ارتبط تاريخيا باليسار، مناسبة لحث من يدّعون انهم اصحاب العيد وممثلو العمال كي يتحولوا الى ممثلين فعليين لهم. وكي يتولى هذا التمثيل يسار لا يخجل من نظرته الشاملة الى الحياة والعالم، هو صاحب اغنى تراث في فهم الرأسمالية وفي نقدها، يسار لا يتردد في استخدام ادواته النظرية ـ حيث النظرية نقطة الانطلاق لا نهاية المطاف ـ من اجل انتاج معارف عن السلطة والمجتمع تلبّي الحاجة العارمة الى التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الجذري الذي ابانت الثورات الحاجة اليه وذلك بالمزاوجة الخلاقة بين قيمتي الحرية والمساواة. وعلى اليسار ان يملك جدارة تمثيل أشرف الناس لأنهم الممنوعون من الصرف، بل الممتنعون من الصرف، على قواعد المنطقة والمذهب والطائفة والدين والاثنية والعشيرة والقبيلة وأضرابها جميعا.
وفي هذا الاول من نوار ـ كما يسمّى الشهر في لبنان، تيمنّاً بتفتّح نوارات الزهر والزرع ـ ليس اجمل ولا اجدر من ان نلقي، وان نتبادل، التحية القرمطية الالفية: تحية العمل والامل.
تحية العمل لأن العمل هو ما يميّز الانسان عن البهيمة، ولأنه حق لا مِنّة، ولأن العمل هو مصنع الامل.
وتحية الامل، لأن الامل عمل، الامل ممارسة تحويل العمل الى ارادة تغيير. ولأننا في ازاء الآمال العريضة التي حملتها الثورات وما يتهددها من انتكاسات وخيبات، نجدنا «محكومين بالامل» (سعدالله ونّوس) ومطالبين بأن «نربّي الأَمَل » ولو على مهل (محمود درويش).

السابق
الأسير يزور القصير.. والائتلاف ينتقد خطاب نصر الله
التالي
بحثاً عن هوية جديدة لمصر