نحن والاوغاد

من المؤكد ان من شاهد مطاردة المشتبه فيهم في عملية بوسطن تأثر كثيرا باعتباره إبن الغرب، فقد كان ثمة قنابل ومصابون ومنع انتقال وقوات شرطة ضخمة، وفشل موازٍ في الحد من شراء السلاح، ومحطات اذاعة مُلحة، وناس تُجرى معهم مقابلات صحفية يحاولون ان يقولوا ‘عرفت جوهار، وهو على الخصوص لطيف’، ويُجابون فورا: ‘كيف يكون لطيفا اذا أحدث فظاعة كهذه؟’. وهكذا يصنعون نظاما يعني دائما الغاء الاختلافات. فاليكم إسهاما امريكيا في ثقافة الغرب. وكل العالم يرى العدل: نحن والأوغاد.
إن بلادة الحس هذه لا تبدأ بالارهاب، فتصور الحرية الامريكي يقوم على اضطهاد مفرط دونما صلة بالجهاد. ويُسجن في سجون الولايات المتحدة اليوم نحو من 2.3 مليون انسان. ونسبة السجن فيها هي العليا في العالم إذ تبلغ أكثر من 700 لكل 100 ألف. وقد حدث التحول في العقود الثلاثة الاخيرة بحيث إن مُجلي امريكا عندنا لم يُحدّث علمهم الى الآن: لقد زادت النفقات على السجون مثلا أكثر من النفقات على الدراسات العليا بثلاثة أضعاف. ولا توجد ديمقراطية اخرى يُسجن فيها هذا العدد الكثير من الناس.
والى ذلك فان واحدا من كل تسعة سود في العشرينيات من عمره يخضع هناك لاحتجاز أو سجن. والفروق في نسب السجن بين السود والبيض (سبعة الى واحد) أعلى كثيرا من الفروق العنصرية في البطالة (اثنان الى واحد)، ووفيات الاطفال (اثنتان الى واحدة) وهي تقوم في تناقض خالص مع توزيع الثروة بالطبع.
إن معسكر التجميع الضخم هذا الذي يتسع البالغون من سكانه وعائلاتهم على الدوام يتم تصريف أموره بالاستعانة برواية متشددة هي ‘العدل يحارب الشر’. واذا شاهدنا مسلسلات تلفازية وحتى ‘الليبرالية’ منها، بدا ان الامريكيين فقدوا كل قدرة على قراءة الجريمة من غير ادعاء العدل ذاك الذي سلح جهاز القضاء نفسه به أصلا. فكل جريمة سياسية أو جنائية تسمى فقط في اطار الاستقطاب بين الخير المطلق والشر الخالص. وهذا هو اطار عرض ‘مكافحة الارهاب’. إن أكثر الامريكيين لا يمكثون في السجون لكن السجن الجماعي يُحصن عندهم قسوة عمياء بليدة. ولا يمكن تثبيت واقع كهذا بغير مساعدة دينية للعدل المطلق في مواجهة الشر الشيطاني، وأعني هوليوود.
ومع كل ذلك فان الشيء الأساسي ليس هنا، ليس في ادعاء العدل الامريكي ولا الجهادي بل عالم الظلام. منذ سنوات تتطاير أجزاء الجثث في الهواء وتُشوى في النار في أنحاء البلدان غير الغربية، ولندع فظاعات فيتنام. إن الاحتلال الامريكي للعراق وحده أوقع عشرات الآلاف من الضحايا. إن جموع الموتى غير الغربيين تمر بصورة متعبة على الشاشات اذا مرت أصلا، بل إن الـ ‘بي.بي.سي’ العالمية لا تتجاوز اطار تقديم التقارير الصحفية التي يُمليها التفكير الاستعماري الغربي وهو ان المس ‘بنا’ مركزي؛ أما المس بالآخرين فلا أهمية له حتى حينما تقتل الطائرات الامريكية من غير طيارين مئات الأبرياء في باكستان وتُدمر مناطق كاملة، آنذاك ايضا لا نهتم بالحياة التي تتحطم في الظلام وراء أسوار سجن العالم الوهمي. المهم فقط هل يخدم ذلك أمننا؟.
يمكن ان نتخيل انسانا نزيها ولنفترض انه موظف في اندونيسيا (أو في الهند أو الاردن) يشاهد الـ ‘سي.إن.إن’ في مقهى الحي، يهز رأسه ويقول لرفاقه في جدية: ‘مساكين الامريكيون، إن الحال هناك جيدة كثيرا، وفجأة يُفجرونهم، يا له من عار’. ولندع من يشمتون بالامريكيين. ولنفكر في أنه كم من الارهابيين الجدد يولدون في كل مقهى كهذا حينما يشاهدون شدة الاهتمام في بوسطن في مقابلة عدم الاكتراث الخالص بالفظاعة وراء مدى الاهتمام الغربي. أي ما يسمى ‘فظاعة’ وما لا يحظى حتى باسم.
ومن جهة اخرى فان بلادة الحس تثمر أرباحا ايضا لأن الارهابيين الجدد يمدون صناعات زاهرة لمحاربة الارهاب وببث حي. فلماذا لا يكون ذلك؟ ومع كل ذلك، ومن اجل التناسب عند الاسرائيلي الذي يكره ‘العرسات’: أنظروا الى طلاب الجامعات الرائعين في بوسطن الذين يصرخون في وحشية حينما يرون مهاجرا في التاسعة عشرة من عمره غارقا في دمه: يو إس إي، يو إس إي. ‘الفظاعة، الفظاعة’.

السابق
اجتماع اللجنة لحسم الخيارات..والتمديد لمجلس النواب بات مؤكدا
التالي
عبادة الاصنام