غلمية: رحلة على أوتار الغروب

دأب على إحياء الحفلات الموسيقية قائداً للأوركسترا حاملاً عصا المايسترو، واثقاً بمؤلفاته الموسيقية الراقية، مؤمناً بإبداعه. بعد أن غمرت حياته الأضواء كموسيقار ومؤلف سمفوني وباحث وأكاديمي وملحن، رحل الموسيقار وليد غلمية عن عمرٍ ناهز 73 عاماً، بعد صراعٍ مع مرضٍ عضال أصرَّ أن يخفيه إلاّ عن زوجته التي شاركته رحلته بكافة مراحلها.

ولد في بلدة جديدة مرجعيون الجنوبية عام 1938، درس الموسيقى في السادسة من عمره، وبدأ التأليف الموسيقي في الخامسة والعشرين منه. جمع بين الموهبة والعلم وراح يطوِّر نفسه ساعياً إلى تحقيق ما يصبو إليه, وسرعان ما تحوّل من الملحن والعازف إلى المؤلف الموسيقي، وبعد أن اشتهر في هذا العالم تمكن من الحصول على الدكتوراه في علم الموسيقى وهو في الرابعة والستين من عمره.
48 عاماً من العطاء، تمضي الأيام لنراه متألقاً وناضجاً ومبدعاً في التأليف الموسيقي، وتصل به المحطات السمفونية ليصبح مايسترو عصيٌّ على النسيان، خاصة وأنه في هذه الحقبة من حياته حفر صورةً ذهنية لشخصية الموسيقار القادر على استيعاب متغيرات الزمن وعلى الإمساك بكل مفرداته.

واليوم نستعيد بعض ومضات من مشواره صارت هي العنوان الأبرز في قاموسه الموسيقي.
التقيته للمرة الأولى في ألحانه الباهرة، ثم تعرفت إليه بصورةٍ أعمق حين قصدته قبيل نهاية العام الماضي لطرح فكرة عمل مشترك، وجدته منهمكاً بأوراق نوتات كان يرتبها. سرقته من عالمه لدقائق معدودة أغنت رصيدي الفكري، تركته خلالها يسرد- فخوراً- ما يحلو له من ذكريات.

كان يعارض فكرة أن تكون اللغة هي التعبير الوحيد لدينا سواء بالكلمة أو اللفظة أو حتى القصيدة, ويؤكد أن الموسيقى تكون تعبيراً تاماً أيضاً، فكان نتاج ذلك أول اسطوانة موسيقية خالصة في العام 1968 حملت إسم " من ليالينا " وضمت إحدى عشرة معزوفه موسيقية.

وبجانب الصعود الهرمي في رحلته الثرية نرى اتساعاً أفقياً في البانوراما الحياتية له، ونكتشف مناطق جديدة من خلال علاقته بزوجته التي تروي بعضاً من مآثره وخصوصياته الفنية فنتعرّف على أولويات حياته لنجد الموسيقى على رأسها لا تضارعها عند غلمية أشياء أخرى غير صحته، فكان شديد الإعتناء بهما يخشى على نفسه من المرض كما يخشى على إبداعه منه، فلم يوقف مسيرته الموسيقية لحظة واحدة، تماماً مثل النهر يجري في قنواته متدفقاً عذباً يروي ظمأ الإنسان وتكتسي بفضله الحياة باللون الأخضر.

إن كل من عرفناهم من المبدعين في عالم الموسيقى كانوا صنع البيئة التي نشأوا فيها أي صنع التقليد والتراث، أمثال وديع الصافي، فيروز، زكي ناصيف، وليد غلمية والرحابنة، كانوا محاطين بجمهور ذوّاق للكلمة واللحن هذا ما دفعهم إلى الإبداع والإنتاج. وفي رحلة وليد غلمية كانت الموسيقى تهدف إلى بناء الإنسان بحيث كانت تعد الوسيلة التي يعبر فيها عن أحاسيسه وقضاياه. عكس ما آلت إليه الموسيقى في عصرنا هذا.

وفي حديث خاص لشؤون جنوبية اختصر الأستاذ الياس الرحباني مشوار صداقته للراحل بقوله: التقينا بعمر 18 سنه وكنا في أول مشوارنا الموسيقي حيث كنت قد أنهيت دراستي في العزف على البيانو وكان وليد يعمل بالموسيقى وكان عازفاً بارعاً لآلة الكمان. كانت الأجواء جميلة آنذاك والفرح حقيقي، ويستطرد (فرحنا اليوم مكسور، والبسمة مصطنعة)، كان لبنان بأوج عزه وأجمل أيامه أمضينا ليالي وأيام جميلة وسهرات عامرة بالبهجة والفرح.

بدأت عملي في الإذاعة وهو كان موظفاً في المطار. كان يسمعني بعض الفولوكلوريات الجنوبية والجبلية ونتشارك العمل أيام التسجيل ونستأنس بآراء بعضنا، ومن ثم نقضي سهراتنا القصيرة في بيت صديق مشترك لنا آنذاك يدعى جان أيوب كان عازفا لآلة البيانو لكنه توفي مبكراً. كنت في الثانية والعشرين من عمري وكنت عندما يأتي الأصحاب من كبار الملحنين والموسيقيين للتسجيل في استديو الإذاعة غالباً ما أهتم بهم وأساعدهم وألعب دور البيانيست في فرقتهم ومنهم توفيق الباشا وزكي ناصيف ووليد غلمية. بعد ذلك كانت عودة روميو لحود إلى لبنان والتقائه بوليد حيث اشتركا معاً باحتفالات مهرجانات بعلبك، ثم طلبت منه وزارة الثقافة العراقية بعض الأعمال فكانت السمفونيات الخمس. كنا من المناضلين الذين كانوا يستحقون التفاتة الدولة لهم ولفنهم، لكن للأسف فمنذ الستينات وحتى اليوم دولتنا على تعاقباتها لا تحترم الفن الأصيل ولا تقدره وهذا ظلم لعالم الموسيقى وللحياة، ونحن عشنا وقضينا حياتنا بكآبة وحزن في ظل حكومات لا تقدّر معنى الفن والموسيقى ولا تحترم الله وما يحبه الله.

وأقول ما كتبته لصديقي الراحل في دفتره يوم الجناز:
" كنا نحلم دايماً بحلم مجهول .. ما منعرف لوين بتودينا الإيام
كنا نترافق وما نعرف شو اللي ناطرنا.. نقعد ونتلاقى ونسأل
شو رح منكون ووين رح منصير..

السابق
ابادي يدعو من الخارجية الى عدم تأثير الازمة السورية سلباً على لبنان
التالي
سماح: لا أعترف بمحمد مرسي