الحرب الاستخرابية على سورية

وُصفت الحروب السابقة، وخاصة تلك التي شنّتها أوروبا خلال القرنين الماضيين بأنها حروب استعمارية. مع أن تعبير استعمار المشتقّ من إعمار، غير متناسب مع تلك الحروب، إلا من حيث الشكل. فالمضمون كان تدمير البنى الاجتماعية الاقتصادية والثقافية الحضارية للمجتمعات المغزوّة واستبدالها ببنى غربية المنشأ، أو ببنى متخلفة تتناسب مع مهمة الاستعمار آنذاك. فقد كان من الأفضل وصفها بالحروب «الاستدمارية» تبعاً للنتائج التي ترتّبت عليها.
الحرب في سورية اليوم، وإن كانت تحمل الأهداف البعيدة المدى ذاتها، إلّا أنها تُخاض بروحية وأسلوب ووسائل مختلفة. فقد خرجت هذه الحرب عن النمط التقليدي للحروب القديمة وأشّرت لعمليات وتكتيكات جديدة، ربما تكون الصفة المستحدثة للحروب المقبلة.
يمكن في الواقع ملاحظة ثلاث مميزات تتقدّم على العمل العسكري المباشر. فالشقّ الإعلامي أصبح من دون منازع الطابع الأكثر تأثيراً من السلاح التقليدي، ووصل في كثير من الأحيان إلى قلب الحقائق الميدانية، بل استطاع خلق قناعات ليس لها أساس في الواقع الميداني، من خلال التضليل وفبركة المشاهد والصور وإطلاق التصريحات وتنميط الإنجازات التي تتماهى مع الخطط المعلنة. حتى بات المراقب المحايد أو المراقب الموضوعي أقرب إلى تصديق الأحداث المفبركة منه إلى الوقائع الحقيقية القائمة على الأرض.
أما ثاني المميزات، فتتعلق بطبيعة المشتركين بالحرب. بحيث أصبح مؤكّداً، أن هذه الحرب تدور بالوكالة عن الطرف المهاجم بغطاء محلي، ووقد حقّقت أعظم تجميع للمرتزقة على امتداد التاريخ، مهما كانت الدوافع والإغراءات، إيديولوجية أم مادية أم جنسية حتى. فالفتاوى المنتشرة بين صفوف هؤلاء المرتزقة ومدبّريهم، تخرج عن حدود التصوّرات العقلية والتقاليد والأعراف والأصول الاجتماعية، وتتعدّى حدود الدين وحدود منطق العصر والمدنية إلى همجية موغلة في الجاهلية والتخلف، كأننا نعيش في عصور ما قبل التاريخ.
أما ثالث المميزات، فهي العمليات المخابراتية الكبرى التي صبغت هذه الحرب بصبغتها. ففي الحروب الماضية كان الاستخبار أو الاستطلاع أو الاستعلام جزء من الحرب يفيد التقدير والتقويم للقوى العسكرية في الميزانين الاستراتيجي والتكتيكي. أما في سورية اليوم، فالمسألة تعدّت وظيفة المخابرات الأصلية، وتبدّلت أولويات العمل، فأصبحت العمليات الاستخباراتية هي الأساس والعمل العسكري هو الجزء المكمّل. لقد تعرّضت سورية إلى أكبر عملية استخبارية في العالم، وربما في التاريخ، بدءاً من الانفتاح على الأتراك، والتنازلات التي قدّمتها سورية لتحقيق هذا الانفتاح خاصة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وصولاً إلى الانفتاح على الاستثمارات الغربية التي أصبحت مواقع عملها مراكز عمليات للاستخبارات الغربية والعربية المتحالفة معها، وصولاً إلى تدخل العاهل السعودي وباتصال مباشر مع الرئيس الأسد للإبقاء على أحد المدافن المتحكمة بعقدة الطرق الأساسية في حمص تمهيداً لاستخدامها لتجميع الأسلحة والمرتزقة. إنّ الكم الهائل من الأموال الذي صُرف على العملية الاستخبارية، ومنها ما تلبس لبوس المساعدات الإنسانية يفوق من حيث حجمه متطلبات تحريك الأساطيل والجيوش الأميركية في حرب عسكرية مباشرة مع سورية.
من عملية «الياسمينة الزرقاء»، إلى استهداف خلية الأزمة، مروراً بأجهزة التجسّس «الاسرائيلية» المزروعة على الشواطئ، والمراكب البحرية الغربية في البحر السوري، ومحطات الاتصال والتنصّت المنصوبة في دول الجوار والأقمار الاصطناعية ومحطات التموين والدعم في مناطق خارج الحدود، إضافة إلى العمليات المباشرة لقوة «دلتا» الأميركية المتخصّصة، ومجموعات النخبة في الجيوش الفرنسية والبريطانية، ومجموعات الموساد «الإسرائيلية» التي استهدفت المراكز الأمنية السورية على الحدود وغيرها من القوى التركية والعربية، شكّلت العلامة الفارقة في هذه الحرب.
المميزات الثلاثة السابقة الذكر التي طبعت الحرب السورية بطابعها، لم ولن تُنتِج إلا الخراب والدمار على المستويات كافة، وقد ظهرت نتائجها في العمليات المبرمجة المتنقلة في المدن الكبرى التي اعتمدت تهديم المراكز الصناعية والعمرانية والحضارية ومراكز الأبحاث وقتل النخب العلمية والعسكرية، وبالتالي استهدفت وضع سورية على لائحة الدول المتخلّفة. غير أنّ القيادة السورية وبالتعاون مع الجيش المتماسك الوفي لتاريخه وقيادته وتراثه القومي والوطني، وبالتكاتف مع الشعب الملتف حول هذه القيادة، سيضع حدّاً لهذه الحرب، بالانتصار على كل أهدافها وأدواتها وأساليبها.

السابق
حزب الله شيّع شاباً قتل في سوريا
التالي
الرئيس مرسي في باكستان لتعزيز العلاقات الثنائية