علمانيون في لبنان.. كِش بَرّا

لا حديث في لبنان اليوم، إلّا حديث الانتخابات، وعلى أيّ قانون سوف تستقرّ الأمور. يبدو التركيز على المشروع الأرثوذكسي هو الغالب، وخلاصته أن تنتخب كلّ طائفة ممثّليها إلى البرلمان العتيد. البعض يتذاكى فيقترح بعض التعديلات، ولكن لا أحد يسأل عن طبيعة هذه التعديلات، وينسى المثل الشعبي القديم: «شو بتعمل الماشطة في الوجه العكش؟!»، ولتوضيح معاني هذا المثل نقول إنّ الماشطة في القديم هي الكوافيرة أو خبيرة التجميل، وكلمة العكش يقول البعض أنّها تعني العكر، ولكنّ التعبير البلديّ يقول أنّ الكلمة تعني «الوجه البشع». وهكذا أصبح المثل مفهوماً. خصوصاً حين يقترح البعض من السياسيين الأشاوس أنّ العدالة والتصويب وصون حقّ الطوائف مع خلطة التعايش، تقضي، مع تطبيق هذا القانون، جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة. برافو!
لست خبير انتخابات ولا معرفة لي بالتشريع والقوانين، لكنني كمواطن أتساءل: كيف يعرف اللبنانيّ السنّيّ من الشمال مرشّحاً صودف أنّه من أقصى الجنوب، وكيف للبنانيّ مارونيّ في بيروت أن ينتخب مرشّحاً مارونياً صودف أن يكون من عين إبل في أقصى جنوب الجنوب، وعلى هذا نقيس باقي الطوائف ومرشّحي الطوائف ـ تلاحظون أنّي لم أقل «كيف لمواطن لبنانيّ» من الطائفة السنّية أو المارونية، لأنّ اللغة السائدة اليوم لا تتحدّث عن مواطن لبنانيّ، بل عن مواطن سنّيّ أو شيعيّ أو مارونيّ أو بروتستانتيّ. لقد أسقطوا مفهوم المواطن والوطن والوطنية إلى أسفل دركات الانحطاط.
مسألة أخرى تقلق بال القلقين حقّاً وصدقاً على مستقبل لبنان. النائب اليوم يقول إنّه نائب عن الشعب اللبنانيّ كلّه لأنّ مجموعة من طوائف عديدة في منطقته انتخبته نائباً عنها، ولكن حين ينحصر ناخبوه في طائفته فقط، فهل يحقّ له القول إنّه نائب عن الشعب اللبنانيّ! ألن نعتبره كاذباً وكذاباً لأنّ أحداً من الطوائف الأخرى لم ينتخبه ولم يفكّر بسعادته ولو للحظات؟ وحين يحدث تعارض مصالح في نقاشات البرلمان، فهل يميل إلى المصلحة العامة التي قد تكون لمنفعة الآخرين، أم سيكون ولاءه لطائفته ومصلحة طائفته؟!
الكذبة الأخرى الأبشع والأكثر خداعاً هي في القول إنّ النائب المنتخب من طائفته فقط، ما إن تطأ قدماه الطاهرتان عتبة البرلمان المقدّس حتى يصبح نائباً عن لبنان كلّه وعن الشعب اللبناني كلّه. أيُّ مَكرٍ هو هذا!
هنا تحضرني قصّة رمزية قديمة تقول إنّ رجلاً فقيراً اسمه أحمد أخذ يتنقل في البراري سيراً على قدميه يبحث عن عمل يؤمّن له رغيف الخبز ومكاناً ينام فيه، فالتقى راهباً يعمل في حقل تابع لأحد الأديرة، وبعد حديث ورجاء، سمح لأحمد بالعمل وأعطي مكاناً للنوم، وبعد فترة، عرضوا عليه أن يتنصّر فقبل مكرهاً لأنّه لا يريد أن يخسر المأوى والطعام، فجرى تعميده وصار اسمه بطرس، وحلّ شهر الصوم الكبير الذي يمتنع فيه المؤمن عن أكل «الزفر»، لكنّ صاحبنا ذبح دجاجة وبدأ يطبخها على النار وامتلأ جو الدير برائحة اللحم، ذهب الرهبان يشتكون إلى رئيس الدير، فرافقهم إلى غرفة أحمد الذي صار بطرس، سأله ماذا تطبخ يا بطرس؟ فقال إنّه يطبخ العدس للعشاء، ومدّ رئيس الدير الخاشوقة (الملعقة الكبيرة) وأخرج الدجاجة من المرق وقال لبطرس: هذه دجاجة وليست عدساً، هل نصدّق أن العدس صار دجاجةً؟ فردّ الأخير: وهل نصدّق أنّ أحمد صار بطرس؟
خلاصة الكلام أنّ الذين يقومون بعملية التجميل ويقولون لنا إنّ انتخاب النواب من قِبل طوائفهم هو الأسلم لصحّة التمثيل وسلامة العيش المشترك، عليهم أن يتدبّروا معاني القصة الرمزية أعلاه حتى نعرف إنهم يقرأون ويستوعبون حقاً ما يقرأون.
المسألة الأخرى هي أنّ كلّ طائفة تنتخب ممثليها ضمن قاعدة المناصفة المتفق عليها، ولكن، ماذا عن العلمانيين؟ ماذا عن أكثر من نصف أبناء الجيل الجديد وبناته، الذين يرفضون الفكر الطائفيّ وقد عرفوا مراراته ومآسيه؟ ماذا عن العلمانيين غير الحزبيين ثم ماذا عن الحزبيين ـ السوريين القوميين والشيوعيين ـ هل يقبلون؟ وإذا قبلوا، فمن يمثلهم في البرلمان وأيّ طائفة تتبنّاهم، وأيّ سند يكون لهم في أوساط الشعب المقسّم طائفياً. يبدو أنّ قراراً من جهات عليا غير مرئية قد صدر ويقضي: العلمانيون في لبنان جميعاً.. كشّ برّا.
«فلقونا» لأكثر من ربع قرن وهم يتحدّثون عن اتفاق الطائف الذي نصّ على إلغاء الطائفية السياسية، و«فلقونا» بالتفلسف أنّ إزالة الطائفية يبدأ في النصوص قبل النفوس، لأنّهم يحبّون السجع.. وتمضي الأيام، فإذا بنا: «لَوَرا يا صبيان لَوَرا». نتراجع مندحرين على سلّم التقدّم والرقي، ننكفئ إلى الوراء لا بفعل هزيمة حلّت بنا على يد محتلّ وعدوّ لدود، بل لأننا نحن أنفسنا نريد الهزيمة ونتسابق إليها بفضل القادة الأشاوس.
الطوائف في لبنان تنتخب ممثليها، قانون سوف يقودنا حتماً ويقيناً إلى مرحلة أن ينتخب أبناء كلّ مذهب ممثليهم إلى البرلمان. السنّيّ ينتخب سنّياً، الشيعيّ ينتخب شيعياً، الأرثوذكسي ينتخب أرثوذكسياً، المارونيّ ينتخب مارونياً، الكرديّ ينتخب كردياً والعلويّ ينتخب علوياً، وهكذا حتى تخلص الطوائف والمذاهب في بلد يقال إنّ حضارته ترجع إلى ستة آلاف سنة، وأنّ عاصمته بيروت شهدت مدرسة الحقوق الأولى في العالم.
نتظاهر لزيادة الرواتب أو لإطلاق سراح موقوف، لكننا لا نتظاهر ولا نغضب من أجل وطن، ووطن لا يعرف شعبه معنى الغضب ليس وطناً ولن يكون.

السابق
مؤسسة الحريري تواصل مساعدة النازحين في صيدا
التالي
غالب غانم ينفي ترشحه لرئاسة الرابطة المارونية