طرابلس: “حكمة” الحرب البديلة

هناك بعض الحقائق في الحرب الطرابلسية المتجدّدة- بل الدائمة في الواقع – قد يكون قولُها محرِجاً جدا للقائل ولا بد من مجازفةِ محاولةِ التصريح بها علّ ذلك يخدم بصورةٍ ما تشكيلَ رأيٍ عامٍ طرابلسيٍّ فعّالٍ –وليس بَكَّاءً- ضد المجزرة.

الحقيقة الأولى هي أن طرابلس في الآلية السياسية الأمنية مجبَرةٌ بإرادتها وبدون إرادتها على افتداء كل لبنان في الحرب الأهلية الراهنة في بلدنا. وبدون كلام إنشائي… لا شك أن المزاج العام المدني في طرابلس لا يمانع بافتداء لبنان بطريقة سلميّةٍ ما لكن شرط أن يكون قادرا على افتداء نفسه أولا. وهو هنا عاجزٌ تماما.
لذلك يجد الطرابلسيون المقيمون أنفسهم وقد أخذوا عن كل لبنان مهمة حصر الحرب الأهليّة في مدينتهم (وريفها المسلم). طرابلس تريحنا في الواقع- نحن بقية لبنانيي المناطق الأخرى- من هول الاقتتال العسكري وتبقينا في "الحرب الأهلية الباردة" ومناوشاتها "السلمية" بينما تأخذ عنا لعلعلة رصاص البنادق والمدافع وضحاياها اليوميين.
بهذا المعنى فإن "لعبة الأمم" الحالية تكتفي – وأظن ستكتفي طويلاً – بأن تحصر الحرب الأهلية في النطاق الجغرافي الطرابلسي.
الحقيقة الثانية التي هي نتاج الأولى أن عاصمة الحرب الأهلية المسيحية المسلمة كانت بيروت بينما عاصمة الحرب الأهلية السنية الشيعية هي طرابلس. أقصد هنا أن بيروت كانت "المركز" القتالي حتى بمعناه الأوسع لاحقا الذي شمل الجبل بينما طرابلس ومن ضمنها أريافها هي "المركز" الآن. مع التذكير بحقيقة سوسيولوجية سياسية هي أن بيئة الحرب الأهلية المسيحية المسلمة كانت لبنانية صرفا على أحد طرفيها وهم المسيحيّون، أما "مادة" الحرب الأهلية السنية الشيعية فهي ليست لبنانية أساسا لأن المجتمع اللبناني فرعيٌّ فيها، فهي آتيةٌ، عصبيةً وأفكاراً ومسرحاً ومدىً، من المنطقة المحيطة التي هي العالم العربي والمسلم والبادئة في طرابلس قبل الانهيار السوري، أي عمليا بشكلٍ انفجاريٍّ بعد التغيير العراقي. في حرب 1975 بقي مسيحيو المنطقة العربية لأسبابٍ مختلفة خارج الصراع أو محيَّدين إرادياً أو قسراً فيه بينما كلا طرفي الحرب الحالية له امتداداته المباشرة في المنطقة أو الأصح هما، سنةً وعلويين، امتدادٌ مباشر لبيئة المنطقة التي هي بدورها منخرطة في الصراع الشامل لكل بلدانها ذات الثنائية السنية الشيعية.
الحقيقة الثالثة هي أن الآثار التدميرية لحرب 1975 شملت كل الطبقات الاجتماعية في بيروت ومحيطها ولاحقا الجبل بينما حرب ما بعد 2005 السنية الشيعية منحصرة في أحياء الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى… فلأسبابٍ مختلفة بعد 13 نيسان 1975 اجتاح فقراء المخيمات والضواحي والقرى مناطق وأحياء الأغنياء والموسرين والطبقات الوسطى ونَعَفوها نعفاً لا في التدمير فحسب بل في الاحتلال من حيث انتقال فئات بكاملها منهم للسكن الطويل في هذه الأحياء سواء التي طردوا منها المسيحيين أو لم يفعلوا ذلك، وهم في غرب بيروت الفلسطينيون والشيعة والسنة والدروز الفقراء أو المعدمون (ووراءهم مافيات الميليشيات طبعا) ولاحقا في الجبل. كذلك الفقراء المسيحيون الذين أتوا من الريف ليس لمصادرة أماكن طرد المسلمين فقط بل أيضاً للتمركز داخل الأشرفية وكسروان وجبيل وغيرها من المناطق الشرقية والشمالية. أما من 2005 وإلى اليوم، فتقع التوتّرات البيروتية الموضعية بين طريق الجديدة والضاحية الجنوبية فيما لم تشهد أحياء بيروت الأخرى آلية تدميرية حتى خلال أحداث أيار السريعة عام 2008. بينما في طرابلس، القتالُ الدمويُّ هو بشكلٍ منهجيٍّ في الأحياء الأكثر فقرا في المدينة. وخلافاً لأغنياء و"ميدل كلاس" بيروت في الاقتتال المسيحي المسلم بعد 1975، وجد أغنياء و"ميدل كلاس" طرابلس اليوم، طريقة ذكية وشبه ثابتة للبقاء بعيدا عن القتال اليومي السني العلوي الذي بات لا يمثّل فقط "القتال البارد" السني الشيعي بل القتال العنيف والإبادي الطابع للحرب الأهليّة السورية بكل التباساتها.
يذكّرني التقسيم الاجتماعي للحرب الطائفية الطرابلسية بما اكتشفته (والكلمة المناسبة هي "اكتشاف") عندما زرتُ بلفاست عاصمة ايرلندا الشمالية عام 1998 فور توقيع "اتفاق الجمعة العظيمة" الذي وضع أسسَ إنهاءِ الحرب الأهلية بين البروتستانت والكاثوليك (زيارةٌ شعرتُ أنني "شاهدتُ" عيني غسان تويني تلمعان حماساً وراء سماعة الهاتف عندما عرضتُ عليه الفكرة في اتصالٍ به من لندن حيث كنتُ إلى بيروت حيث كان).
الذي اكتشفته في بلفاست أن خطوط التماس القتالية التي امتدّت ثلاثين عاما على جانبيْ حائط طويل وشهير جدا كانت بين الأحياء الأكثر شعبية أو يمكن القول أنها الأحياء الأكثر تواضعا. كان وسط المدينة خلال ثلاثة عقود مفتوحا للعمل كأنما كان الجميع يأتي في النهار للتبادل والعيش ويعود فقراؤهم بعد العمل إلى القتال المباشر في أماكن سكنهم. وما خلا تفجيراتٍ من هنا أوهناك كان بعض المسارح يعمل في وسط المدينة الذي حضرتُ فيه في تلك الأيام الأولى الحذرة للسلام "باليه" لفرقة إيرلندية تقتبس قصة "بلانش نيج" الكلاسيكية. وقيل لي هناك أنها فرقة تعمل وتعرض في وسط المدينة من سنوات.
في بيروت 1975 دمّر اللبنانيون (مع وضد الفلسطينيّين) أول ما دمّروا الوسط التجاري. دمّروا منطقة العيش المشترك بل إذا جاز التعبير "الإنتاج المشترك". هل هو الفارق بين الثقافة البروتستانتية الإنتاجية في الحرب الأهلية التي عكستها تجربة بلفاست وبين الثقافة الشرقية العدمية (مسلمون ومسيحيون غير بروتستانت!) التي عكستها تجربة بيروت في الحرب الأهلية؟… إذا جاز لنا أن نمدّد أفكار ماكس فيبر إلى مجال الحروب الأهلية.
الجزء "الإيجابي" من الحرب الطرابلسية الحالية أن وسط المدينة الرئيسي سواء التجاري أو الخدماتي (وطبعا الترفيهي) لا يزال خارج منطقة القتال باستثناء تجار الخضار في باب التبانة الذين يزدحم زبائنهم على بعد أمتار من خط التماس… هذا هو الجانب "البروتستانتي" للبورجوازية الطرابلسية. أما الجزء الآخر، من حيث النتيجة لا الإرادة على الأقل، فهو اقتصارُ القتالِ وتمركزُه على وفي مناطق الفقراء والمعدمين… مثلما هي مناطق التأزم (لا القتال) حتى الآن بين طريق الجديدة والضاحية في بيروت.
كانت حرب 1975 شاملة لأنها تعلّقت بقرار "القطيعة" داخلياً والقرار الدولي الإقليمي بمركزة الصراع العربي الإسرائيلي بكامله في لبنان.
حرب طرابلس بعد 2005 ولاسيما بعد الثورة السورية هي رافدٌ للمجرى الرئيسي في المنطقة. ولذلك قرّر ما تبقّى من التوافق الإقليمي الدولي أو قرّر المتصارعون على المنطقة أن "يحيِّدوا" بيروت المركز عن القتال لإبقائها مدينة خدمات غير معلنة للصراع على سوريا.
هذه الحكمة – المصالح الدولية، يا للمفارقة، تثير غضبَ بعضِ النخبةِ اللبنانيةِ لأنها تؤخِّر ازدهارَ ارتزاقِها بالحرب الأهلية.
من يُنقذ طرابلس من هذا الدور البديل عن كل لبنان؟ شكرا لطرابلس على حمايتنا. لكن من يحميها هيَ في ظل انصراف الآلهة إلى القتال فيها على … سوريا؟ وهل فات الأوان غيرُ انتظار انتهاء الصراع في سوريا… الصراع الذي لن ينتهي بسقوط النظام بل سيبدأ طوراً أصعب ربما يكون كلُّ لبنانَ عندها مسرحَه فينتهي البديل الطرابلسي في الحريق السوري إنما تشتعل طرابلس في الحريق اللبناني؟؟

السابق
لا تنتظروا الأزمة السوريّة لأنّ الإنتظار سيطول
التالي
“جبهة النصرة”….على لائحة واشنطن الارهابية