لكن الوقت في مصلحة منتحلي الصفة

في أقل من 24 ساعة، أساءت الصحافة اللبنانية إلى نفسها مرتين، كما لم تسئ من قبل.
أمس مُنع صحافيون لبنانيون يطالبون بالدخول إلى «نقابة المحررين» من عقد مؤتمرهم الصحافي في قصر الأونيسكو المسمى قصر الناس جميعاً. وأمس الأول، أصدر نقيب المحررين إلياس عون بياناً أهان فيه النقابة والمهنة والصحافيين وأدنى مفهوم للديموقراطية في هذا البلد.
منعُ الصحافيين من إطلاق موقفهم في المكان الذي لولا تغطيتهم لما يحدث فيه لما سمع أحد به، فعل شنيع لم يغط على البيان ـ الفرمان العثماني الذي لا يمكن أن يكتب بلغة أسوأ من التي كتب فيها.

في بيانه، أخذ النقيب المواقف التي كان يجب أن يتجنبها. قال كل ما يجب ألا يقوله بصفته صحافياً ونقابياً في آن. منّن الذين أدنى حق من حقوقهم دخول النقابة، مستخدماً لغة لم تعد صالحة في الصحافة المكتوبة، لكثرة اجترارها، كالطعن بالسكاكين مثلا، ومهوّلا بالمساءلة، وهو تهويل ضمني بعدم قبول طلبات الانتساب إلى النقابة، أو تأخير قبولهم بعد «فتح الجدول» الذي فتحُه وإغلاقه في علم الغيب وأساطير ألف ليلة وليلة.
وهو رأى في المتقدمين إلى النقابة، صحافيين أقل من الذين فيها، لم «يلجوا عتبتها بعد»، لذا لا يحق لهم أن يعترضوا على هذا الغموض الهائل الذي يلف انضمامهم إلى نقابة تكاد، لشدة انغلاقها على نفسها، تشبه محفلاً سرياً هو على العكس التام لما تمثله النقابات من أرقى أشكال العمل الديموقراطي السياسي.

البيان المصاب بالذهول من الحرف الأول فيه وحتى الأخير، تابع بأن «أسف لأن يفسح بعض الزملاء في عدد من الصحف المحترمة لأصحاب الحملة حيزاً مكنهم من الترويج لادّعاءاتهم غير الصحيحة إطلاقاً».
وهي عبارة لا تحتاج إلى قراءة ثانية. هي ببساطة تقول إن نقيب المحررين يطلب من أصحاب الصحف أن يمنعوا نشر خبر يتعلق بأبناء نقابته، حاليين كانوا أم مستقبليين! النقيب، وفي انقلاب تام على أبسط منطق، يطلب من أصحاب الصحف أن يكونوا رقباء على أبناء نقابته ممن يسعون إلى التخلص من كل رقابة ممكنة. يقف النقيب عند الضفة الأخرى لمن انتخبوه ممثلاً لحقوقهم وعلى رأسها حق النشر، خبزهم الأول والأخير. يقف عند الضفة الأخرى، مجرّداً النقابة من سبب قوتها في حماية حرية الصحافي بالنشر. مجرداً إياها من كل مضمونها كحامية للديموقراطية والحريات وحقوق المحررين. يعيدها إلى ما كانت عليه دائماً في لبنان: نادياً خاصاً بلا أي فعالية، الدافع الوحيد لدخوله، في الذهنية العامة، هو إمكان أن يصير المحرر مديراً مسؤولاً لمطبوعة فيضيف إلى أجره مبلغاً شهرياً متواضعاً في الغالب، أو أن ينال خفضاً على بطاقات سفر وفاتورة هاتف. فإذا كان دخول مثل هذه النقابة مقتصراً على مثل هذه المنافع، كان انتحال الصفة، وأكثرنا منتحلو صفة، أفضل ألف مرة من الانضواء فيها.

التحرك الذي يقوم به الصحافيون خطر بهذا المعنى. خطر لأنه يفرض على النقابة صورتها المشتهاة منا والتي لا يريدها الآخرون، معظم الآخرين، لها. منذ عقود والنقابة نادٍ صغير مكتفٍ بما هو فيه وعليه، لأنه يراد منه أن يكون كذلك، بلا أي معنى وقوة. هذه النقابة تستطيع أن تكون سلطة أولى في البلد (وليس رابعة كما يصطلح الكليشيه الشهير). يمكنها في السياسة كما في حقوق أبنائها أن تكون نداً لطبقة سياسية شغلها الشاغل أن يكون الصحافيون ملحقين بها، وليسوا أنداداً لها. يمكنها أن تحفظ للمحررين حقوقهم وأن ترتفع بشأن المهنة، لو أنها أكثر حياة وحيوية وابتكاراً مما هي فيه الآن. يمكن «نقابة المحررين» بالتحديد أن تكون نموذجاً لكل ما يطالبون به على صفحات جرائدهم. أن تكون أمامهم، لا أن تكون في غيبوبة كما هي منذ سنوات بعيدة.

كان على النقابة أن تستقبل التحرك المطلبي بصفته محاولة مرتجاة تأخرت كثيراً لإيقاظها من غيبوبتها. كان عليها أن تتلقفه بصفته دماً جديداً يغني الدم الذي في عروقها. لم تفعل. قررت، كأي مريض عنيد ومتشاوف وناكر لمرضه، أن ترفض الدواء الذي تحتاج إليه. قررت أن تسميه دواءً مزوراً. قررت أن تتعامل مع الصحافيين على أنهم منتحلو صفة.. مع أنها أكثر من يعلم أن هؤلاء الناس ليسوا للحظة منتحلي صفة صحافيين.

رفضُ التغيير ومقاومته ليس جديداً. والمساوئ المضافة إلى الصحافة اللبنانية في البيان كما في منع دخول قصر الاونيسكو ليست مستغربة، بل في سياقها الملائم تماماً. لم يكن متوقعاً إلا أن تتصرف النقابة كما تصرفت. هي معركة تكاد تكون تقليدية بين القديم والجديد. والوقت هذه المرة في مصلحة منتحلي صفة صحافيين، وهم منتحلو هذه الصفة عن حق أكيد ومشروع، وليسوا بحاجة لإثباته إلى منّة من أحد.
  

السابق
موسكو: الدرع الصاروخية تشكّل خطراً
التالي
3 عوامل ترجّح بقاء النظام