أنا محمد الفلسطينيّ

أخيراً، أخذ الشاب قراره. في هذا اللقاء سيجيب: «أنا اسمي محمد». جملة واحدة وسيترك مساحة لصمته.
هو يعلم تماماً أنه رُفض في الوظيفة السابقة، بسبب إطالته الكلام. طلبت منه الشابة التعريف عن نفسه، فلم يتمكّن من نسج المطلوب سريعاً. معلومات كثيفة تُحيط به. هو فلسطيني سوري، لكن أمّه لبنانية. لاجئ في سوريا، لكنه انتقل إلى لبنان بهدف إكمال دراسته.

وصل محمد إلى لبنان، ولم يغب الجدّ عن باله. يُقيم ذلك الرجل في رأسه منذ رحيله، بعد أن شحنه أملاً بعودة لطالما كانت قريبة. لم يترك له سوى أسىً وهمّاً ومفتاحاً. السبت الماضي، رمى مفتاح المنزل في فلسطين. صعد إلى أعلى الجبل، وضع المفتاح في علبة ودحرجه نزولاً. أرسله وحده إلى بلاده. «حتماً سيصل»، هكذا أقنع نفسه.
قرّر السكن عند عمّته بعد إلحاح منها. بحث عن هويّة له في المخيّم، لم يجد سوى تلك السورية. فلسطين حبيبته، فقط لا أكثر. يريد العودة، هذا ما يكرّره دائماً. حياته بلا أوراق ثبوتية وبلا مسكن وعمل ثابت، تجعله في حالة «شتات» دائمة. يخطر دائماً في باله أن يغفو وهو يكرّر كلمتي: «أنا لاجئ.. أنا لاجئ».

بدأ تجربته في الجامعة، فرحاً بخطوة جديدة. مع أوّل لقاء برفاقه، وبعد أن تفاجؤوا بفلسطينيته، أخبرهم عن الأرض: هل تعرفون معنى وجود بني آدم بلا أرض، هذه أكبر المآسي، والله شاهد.
فترة صغيرة وأعلن محمد تعبه. يشكو دائماً لصديقته عن الموتى من حوله. هنا لا أحد يستيقظ، كما يكونون ليلاً يبقون في الصباح. صور الشهداء والمجازر تسكتهم جميعاً. يبكون طول النهار. الرجل الذي لا يبكي ابنه أو زوجته الميتة، حتماً يبكي على حياته ومأساته ومخيّمه وشعبه.

يستسهل محيط محمد «غير الفلسطيني» ظلمه. أكثر من يزعجه هم رفاق جامعته وأساتذته. البارحة مثلاً، لم تكترث الإدارة بإبلاغه عن عرض تدريب في إحدى المؤسسات. ربما لا يرغب هو بالمشاركة، لكنه يحبّذ لو تركوا الخيار له. لا يدري محمد أن المؤسسة أوصت بعدم «جلب» فلسطينيين إلى حرمها. لم يكتشف بعد «العنصريّة».
تقدّم إلى إحدى الوظائف علّه يتدبّر مصروفه الشخصي. وصل وعندما عرّف عن نفسه، اعتذر منه الرجل بلطف. وظيفة ثانية، هذه المرّة الاعتذار «جلف». ظن أنه ارتكب خطأً فادحاً. حينما أخبر صديقته بما جرى، ضحكت مطوّلاً.

مع عودته ليلاً، أخبرته عمّته أن ابن عمّ زوجها سعيد تعرّض للسرقة. أوقف السرفيس وصعد. بعد قطع مسافة بسيطة، طلب منه السائق، بقوّة السلاح، إفراغ ما في جيوبه. حينما فعل، رُمي من السيارة. توجّه إلى أقرب مخفر درك، فأجابه العسكريّ «يلا فلسطينيي ببعض». حاول أن يفهمه أن السارق لبناني، لكن دون جدوى. أنهت العمّة قصّتها. ابتسم مطوّلاً وسألها إن كان ابن عمّ زوجها هو محمد الفرّان أم أخاه الأصغر؟   

السابق
تحية لمن يستحضره الميدان
التالي
هذا دور إيران المركزي فـي التغيّـرات القادمة على المنطقة