أم الشرائع

تتوالى الأحداث في لبنان على نحو دراماتيكي مثير للقلق، في حين تتوالد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية لتطاول معيشة الناس، مثلما يتوالد الفطر في العتمة. أما الخطاب السياسي العنيف فهو سيّد الساحة بكل تداعياته السلبية على الناس، التي ترتدّ شيئاً فشيئاً إلى التمترس وراء طوائفها ومذاهبها، على رغم خوف الجميع من عودة الحرب الأهلية.

وفيما ينشغل الكل في المحيط الإقليمي وحتى العالمي، عن لبنان وناسه وسياسييه وقضاياه وتفاصيل مشاكله المحلية، يبدو أن اللبنانيين باتوا «مقطوعين من شجرة»، فليس هناك من يسأل هل هم في نعيم أم في شقاء، أو إذا كانت حكومتهم أقرّت قانوناً للانتخاب قابلاً للحياة، أو إذا كان مجلس نوابهم سيصادق عليه أو يردّه ويقترح بديلاً هجيناً منه… أو إذا ما كانت الانتخابات ستجري بقانون الستين أو سواه من القوانين السيئة الذكر، كذلك ليس هناك من يحاسب على التعيينات الإدارية والتحاصص وتبعاته، أو ما إذا كان ليل الحكومة والناس الطويل سينجلي مع استجرار الكهرباء من هنا أو هناك.

باختصار، الوضع في لبنان، حالياً، طوْع أهله، بل هو ملك الطبقة السياسية سواء في الحكومة أم في المعارضة لكن كيف؟ في الماضي القريب كانت ذريعة التخلي عن المسؤولية، التدخل السوري في التفاصيل اللبنانية. غير أن سورية منشغلة اليوم بأزمتها المتمادية، والتي نتمنى أن تنجح مساعي المبعوث الدولي
والعربي الأخضر الإبراهيمي في إنهائها ووضع حدّ لشلال الدم فيها والبحث عن حلول عبر الحوار، فما هي ذريعة الممتنعين عن ممارسة المسؤوليات الوطنية على اختلافها؟

لبنان اليوم أمام فرصة الأخذ بناصية قضاياه بنفسه حتى الأمنية منها، فليس هناك ما يقف حائلاً دون اتخاذ القرارات الضرورية لوضع حدّ للتسيّب والفوضى، فكيف بالقرارات المتعلقة بالقضايا المعيشية، ونخصّ في هذه العجالة القضايا التربوية والتعليمية على أبواب الخريف مع قرب افتتاح المدارس والجامعات؟ إن أكثر ما يعني اللبنانيين طلب العلم لأولادهم، وبالتالي فإنهم يُجمعون في خضم الضائقة المعيشية والاقتصادية على ضرورة الاهتمام بالمدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية. فقبل الحرب الأهلية، شكلت المدرسة الرسمية للبناني، كغيره من شعوب الأرض، الخيار الأمثل لتعليم أبنائه وبناته كما الجامعة اللبنانية، وكانتا تزاحمان القطاع التربوي الخاص. ولا مبالغة إذا قلنا إن أسماءً لامعة في الإدارة والاقتصاد والتجارة وفي التعليم الأساسي والثانوي وفي مختلف القطاعات، هم من خريجي التعليم الرسمي، والذين اشتهروا أيضاً في البلدان العربية والمهاجِر. من يمنع المسؤولين من إحياء المدرسة الرسمية وتعزيز الجامعة اللبنانية؟

العملية تبدأ بخطة متكاملة، بدءاً من التعيينات الإدارية لهذا القطاع بعيداً من المحاصصات، فتعتمد الكفاءة والسمعة الحسنة قبل أي شيء آخر. إذ إن مراعاة التوازن الطائفي لا تشترط منع اعتماد الكفاءة، وإلاّ فما هي وظيفة مجلس الخدمة المدنية؟ المحسوبية أساس الأزمة القائمة، فالانتماءات لا تكتفي بلون الطائفة وجنسها والمذهب ودلالاته بل تذهب أبعد من ذلك، إذ تضيف إليها شرط الولاء لهذا الزعيم أو تلك الجهة النافذة، وإلاّ فلا مركز ولا وظيفة. وهكذا ويا للأسف أُصِبْنا بهذا البلاء في قطاعنا التعليمي الرسمي وجامعتنا اللبنانية التي كانت ملاذ الطبقة المتوسطة والفقيرة، فيما تحوّل بعض جامعاتنا الخاصة التي كانت قِبلة العرب وخيارهم الأمثل، دكاكين لبيع الشهادات وأحلام المستقبل الموهوم لطلابنا.

باختصار شديد، يحتاج هذا القطاع إلى ورشة واسعة تواكب التطوّر على المستوى العالمي، وتعيد تأهيل قطاعاته وكوادره وتنصف المعلمين والأساتذة والعاملين فيه أيضاً. والأهم في هذا السياق، إعادة تفعيل التفتيش التربوي لأنه من غير ذلك سيبقى هذا القطاع سائباً للمنتفعين فحسب.
للتذكير فقط فإن بيروت كانت «أم الشرائع ومرضعة العلوم» ومركزاً رئيساً لتعليم البيارتة واللبنانيين، فلنعمل جميعاً لإنهاض مدارسها وتعزيز العلوم في جامعاتها. بيروت تحتاج إلى المخلصين والمعتدلين ليعمّ العدل عموم لبنان.  

السابق
فعلاً ما العمل؟
التالي
الحكومة تقر السلسلة بضرائب جديدة… وباللتقسيط !!