اعتذار مستحق.. إلى السيد موسى الصدر

يستحق السيد موسى الصدر اعتذاراً. لا لإهمالنا قضيته وجعلها ديبلوماسية وحزبية أو مذهبية وموسمية وحسب، وإنما لإهمالنا شخصيته والتعرف إليها. وهو إنسان قادر على أن ينسل إلى أفكارنا وكلامنا إذا استبعدنا الأحكام المسبقة والحواجز السياسية والفكرية. بل إن قيمته تبرز وتحضر في هذه المساحة العامة، سواء أتمت مقاربته سياسياً أم مذهبياً أو فكرياً وأولاً إنسانياً شخصياً.
يؤذيه أن يختصر في حركة أو حزب أو طائفة. هو نقيض ذلك. وقد حصل ذلك، وحصلت أذيته حتى ولو حُوّل أيقونة. فالأيقنة توأم تحزيبه وتطييفه. وقد حصل هذا وتلك على حساب قيمته الإنسانية والفكرية والسياسية أيضاً.

وآخر ما يعنيني أنه أسس حركة المحرومين، وأنها كانت لا تخص مذهباً بعينه. وآخر ما يعنيني أنه خرج من المسجد بعد الصلاة وتوجه إلى مصنع لبيع الحلوى يخص أسرة مسيحية في صور وطلب إلى صاحبه أن يأتيه بالحلوى والبوظة إلى الرصيف كي يأكل جهاراً نهاراً أمام من وجد في السوق، مع تأكيد أهمية هذه المبادرة ودلالاتها في شخصيته كنابذ للطائفية، لا سيما إذا كانت طالعة من مصلحة تجارية. وآخر ما يعنيني أيضاً، في موسى الصدر الإنسان، أنه دخل معمماً كنيسة الكبوشية في بيروت وحاور مَن فيها.

لدى موسى الصدر أكثر من هذا. أكثر من طلبه إطلاق سراح معتقل رأي قائلاً للضابط: إنه ابني، نعم هذا الشيوعي ابني. لدى موسى الصدر ما هو أكثر من الاعتكاف في مسجد العاملية ضد الحرب. موسى الصدر إنسان، ولديه في سيرته، أنه كان يدخل البيوت بود وصداقة ويطلب من أصحابها استضافته مع الأركيلة. لدى موسى الصدر شعرٌ تحت عمامته، ولم يُحرج من تصويره من دون العباءة. وكان، في الصور، يرتب القميص تحت بنطلونه. ويضع حزاماً جلداً. لدى موسى الصدر حسّ وثقافة اجتماعيان (سوسيولوجيان) في مقاربته الناس وحياتهم وطبائعهم، وليس وازعاً دينياً وحسب ضد الفقر والحرمان. قبل أن يحكي بالفقر والحرمان ويسيسهما، نظر إلى الناس وأحوالهم. وقبل أن ينطلق للمساعدة و«البر والإحسان»، شخص السلوكيات والآثار، التقى الناس في الشوارع والبيوت. وقبل أن يكون مع الفقراء والمحرومين لكونهم فقراء ولكونهم من ملّته، انتقد آثار الحرمان وانتقد المحرومين ذوي السلوكيات السلبية، كالشحادة أو التعايش مع القذارة وتغليف المصالح الخاصّة بالدين والمذهبيّة. نعم، انتقد الفقراء الذين ناضل لحقوقهم ولأجلهم. وفي مكتبته مقالات في ذلك. ومع البحث والتنقيب والكتابة عمل. وقبل أن يعمل في السياسة عمل مع الناس وللناس. وعمله الأول هو ما أفضى به إلى السياسة.

ومثلما انتقد الناس أو سلوكياتهم وتعايشهم مع آثار الحرمان، انتقد السياسة والسياسيين. وكان لبنان وكانت السياسة فيه، وكذلك الاقتصاد والاجتماع، أصغر مما يحمله من تراث حضاري أتى به من إيران. هذا سرّ من أسرار ثرائه الثقافي والسياسي والاجتماعي، ولم يُقارب ولم يُعترف به. نظرته إلى الدولة أوسع من الائتلاف الملي وميثاقه وسياسته الاقتصادية والاجتماعية. نظرته إلى الدين كذلك، أوسع من الطائفية والمذهبية وأرحب من التعصّب وأعمق من «السطحيّة» السائدة. ونظرته إلى «التعايش» بين الأديان والمذاهب والأفكار والعقائد والأحزاب أوسع من السياسة والتحالفات أو الخصومات، الآني منها والتاريخي. نظرته إنسانية. ونظرته إلى المواطن أوسع من النظرة اللبنانية إليها. نظرة أغنى، قائمة على تجربة طويلة وعريضة وعميقة. وقد صهر هذا بروحه الإنسانيّة ودماثته، ولم يتطرّف.
لا أسوق هذا مديحاً. أعماله موجودة. أما السياسة بعده فلغير هذا الموضع نقداً أو تبريراً.   

السابق
صورة العرب في أميركا
التالي
منع التدخين.. يؤدي إلى أمراض خطيرة