صداقة حدودها الملجأ

في أول أيام حرب تموز العام 2006، أدركت أن ما كان يجوب ذاكرتي قبل ذلك لم يكن حلماً ولا مشهداً من فيلم جعلت نفسي شخصيةً أساسية فيه، من شدة تأثري به. تلك الخطوات نفسها، من المنزل إلى مكانٍ قريبٍ تحت الأرض، أعادتني عشر سنوات إلى الوراء، إلى عدوان نيسان من العام 1996، إلى الأيام التي لا أذكر منها سوى أصوات الطائرات المرعبة وهي تخترق جدار الصوت، ومشهد العائلة تركض نحو «طابق تحت الأرض» في المبنى المجاور، وعمّي يحملني على كتفيه للوصول إلى ما سيعلق في ذاكرتي على انه الملجأ.
في تلك الأيام، كان عمري أربع سنوات، وكان الملجأ يستخدم كمحل لألعاب التسلية و«الفليبر». بين أوقات الرعب التي فرضتها الطائرات، كانت تمر لحظات فرح عنوانها «الألعاب الكبيرة» التي كنا محرومين من اللعب بها، لأنها «ألعاب الصبيان»، وكانت أول مرة نتعرف فيها إلى أطفال حيّنا.
بعد نهاية عدوان نيسان، أصبح لنا أصدقاء جدد، نلعب معا أيام الآحاد في الحي، نتنافس مع أبناء الحي الثاني، وننتظر باص المدرسة معا في الصباح الباكر على درج بنايتنا. تمر السنوات وتنقطع علاقات الطفولة، بتنا نمرُ أمام «الشباب» بخجل أثناء تهامسهم ونظراتهم الفظّة. عدنا إلى عزلتنا عن أبناء شارعنا، وانقطع التواصل.
شاء العدو الصهيوني أن تتكرر التجربة نفسها بعد عشر سنوات. خطوات الهرب نفسها، والملجأ نفسه، لكن هذه المرّة أصبح معتماً، بعد أن اختفت تلك الألعاب، واستبدلت برائحة العفونة. كأن أبوابه لم تُفتح منذ العام 1996.
الليلة الثانية لحرب تموز 2006 لم تكن ليلة عادية. كانت كل العائلة على أتمّ الجهوزية، وضّبت أمي الأغراض المهمة وأوراقنا الثبوتية وجوازات السفر في حقيبة صغيرة. وتجمّعنا في غرفة واحدة، مرتدين ثيابنا، ومستعدين للخروج في أية لحظة.
في منتصف الليل، دوّت انفجارات متتالية على مقربة من بيتنا في منطقة الغبيري، في الضاحية الجنوبية. احتار الجميع، ودبّ الذعر. أين نختبئ؟ أي الأمكنة أكثر أمناً، تحت الطاولات أم في الغرفة البعيدة عن الشرفات؟ هل نبقى في غرفة واحدة، أم نتوزع بين الغرف؟
تجمع سكان المبنى في الطابق الأول، بينما كان عمي نفسه الذي ركض بي منذ عشر سنوات إلى الملجأ، يحاول مع شباب الحي أن يكسروا بابه، بعد أن هربت السيدة التي تحتفظ بالمفتاح من شدة خوفها.
اشتد القصف، وأصبحت طريق الملجأ مفتوحة أمامنا. عندما نظرت من باب الحديد، رأيت مكانا أصغر مما كان في مخيلتي، مكانٌا مكتظٌا بوجوهٍ اعرفها، يجلسون على الأرض والفراش. يضيء البعض أنوارا خفيفة من قدّاحاتٍ وقناديل كهربائية حملوها معهم أثناء الهرب.
قضينا الليلة كلّها مع الجيران، واستحوذت أحداث القصف على جو الملجأ. لم تكن هناك أحاديث فردية، بل كان الكل يحدِّث الكل، بغض النظر إن كانت تجمعهم معرفة سابقة أم لا.
يروي أحد الشبان كيف كان يراقب من على شرفة منزله حركة الطائرات، كي ينذر أهله بضرورة الهرب. وتحكي جارة عن الرعب الذي سيطر عليها، ومنعها من النوم أياما، بسبب القلق على أطفالها. لم تتوقف الهواتف عن الرنين، الأقارب والأصدقاء المسافرون والبعيدون يحاولون الاستفسار عن سلامة أحبتهم، عبر هاتف وحيد.
مجموعة من الجيران كانت مشغولة بتلاوة القرآن والدعاء، فيما مجموعة أخرى كان يتملّكها الضحك من شر البليّة التي حلّت بهم.
كنّا نحاول أن نعرف المواقع القريبة التي تم قصفها. تأكدنا أن جسر المطار تم تدميره. وصار السؤال الذي يشغل بالنا ماذا سيحل بنا بعد انقضاء هذه الليلة؟
مع بزوغ الفجر كانت الحواجز قد انكسرت بيننا، وبات كل واحد يتشارك قصصه وأخباره مع أصدقاء جيران لم نكن قد تعرفنا إليهم من قبل.
انتهت الحرب وعاد الجميع إلى حياتهم السابقة، ولم يبق من الملجأ سوى ذكريات لقاء إنساني جميل.
لقد كانت الحرب القاسية، التي قتلت الأبرياء ودمرت البيوت، هي نفسها التي جمعتنا تحت سقفٍ واحد مهدد بالقصف في أية لحظة. إلاّ أن هذا السقف وطّد روابط عائلات صار ارتباطها بعضها ببعض في لحظة خوف أكبر تعبير عن الأمل بالحياة. واليوم، لا أتمنى عودة الحرب، إلاّ أني افتقد لجيران قضيت معهم لحظات عنوانها الخوف والألفة، لأصدقاء جمعني بهم ملجأ، بينما الآن لا نتبادل حتى السلام. 
 

السابق
اللاعبات المحجّبات: الفيفا يلعب بالنار
التالي
سورية.. مستمرون في الحرب