الدولة المشلولة: انتهاء صلاحية الطائف

الجيش ممنوع عليه الدخول حيث هو يقرر. وقوى الامن الداخلي مخطوفة من عصبة الطائفيين المنتشرين اينما كان. والفلتان يسيطر على المشهد الامني والسياسي. سلطة القضاء ليست محل احترام جدي عند الجمهور. الوزارات والادارات الرسمية باتت تعمل وفق ما يقرر المتولي رئاستها. اما الشارع فيكون عندها ملك من بيده الامر. هكذا لا يعود هناك مواطن. على هذا الشخص الاختيار بين النضال من أجل قيام دولة المؤسسات، او الصبر ريثما تمطر السماء دولة حقيقية، او الانضواء تحت رايات الطائفيين المجرمين والقبول بقاعدة من الذمية تجعله مواطناً ناقصاً، اكثر انحطاطا من مواطني الدرجة الثانية او الثالثة… اما ادوات الرأي العام، فهي مقتصرة اليوم على وسائل اعلام تعاني ازمة صدقية هي الاشد منذ قيام هذا البلد. وينتهي المشهد على شلل تام يصيب الدولة اولا، ويصيب الافراد ولو كانوا مجتمعين.
ما حصل في اليومين الماضيين، سجل اول انفجار كان متوقعا لاتفاق الطائف منذ توقيعه بقوة الموت في لبنان، وقوة الخارج قبل نحو ربع قرن. وهو الانفجار الذي يقول لنا، ان ما يسمى الميثاق الوطني للعام 1943، انما هو في حقيقة الامر، نظام طائفي بأرجحية مسيحية سرعان ما رفضها المسلمون، وانتظروا اللحظة المناسبة حتى نسفوه. لكنهم استبدلوه باتفاق الطائف، وهو في حقيقة الامر نظام طائفي بأرجحية اسلامية. وها هم المسيحيون ينتفضون من جديد، يريدون اما حقوقا متكاملة، او ربما يحلم بعضهم بالعودة الى الصيغة السابقة، بينما يتصرف المسلمون بطريقة لا تعكس قدراً اعلى من الذكاء مما تصرفت به المارونية السياسية قبل اربعة عقود، فتراهم يتمسكون بنظام طائفي مقيت، ويرفضون البحث به او تعديله، بينما هم في حقيقة الامر، مثل المسيحيين، احوج الى نظام يتجاوز هذه الصيغة الطائفية. اي الى نظام يقوم فيه القانون مقام المارقين الذين يمسكون بالبلاد والعباد سلماً وحرباً.
لكن حدث امس، والذي بدا فيه لبنان شبيهاً بما كان عليه في سبعينيات او ثمانينيات القرن الماضي، يفتح الباب امام مقاربة تقول ما لا يعجب احداً من هؤلاء المصطفّين في طابور المنتظرين لجولة حروب اهلية جديدة، تحاكي او تتأثر بما يجري حولنا:
ــــ في الجانب المسيحي، ثمة عبارات لئيمة صدرت تتحدث عن ضرورة اعادة التوازن الى الوضع الوظيفي في القطاع العام. يعني، ببساطة، ان هناك من يريد مساواة كاملة على الصعيد العددي لا اكثر ولا اقل. اي انه كلما جرى توظيف مسلم يجب ان يوظف في مقابله مسيحي. سواء في القوى الامنية والعسكرية او في الادارة العامة. وهذا امر يجب ان يكون واضحاً انه بات مستحيلاً، لأن التوازن الديموغرافي في لبنان لم يعد كما كان عليه قبل خمسين سنة، ولا قبل ثلاثين سنة، إذ ان نحو ثلثي سكان لبنان هم من المسلمين. واذا قال اصحاب هذه الوجهة من المسيحيين بالمساواة على صعيد التوظيف، فعليهم عندها القبول بالمساواة على صعيد البطالة ايضاً. هل هذا يصح؟
ــــ في الجانب المسلم، ثمة شهية لا تتوقف عند القوى الممثلة للمسلمين داخل الدولة. من قادة الحرب الذين احتووا الدولة بدل ان تستوعبهم هي، كما هي دروس نبيه بري ووليد جنبلاط، الى «عالم البزنس» الذي ادخله الراحل رفيق الحريري الى دولة ما بعد الطائف، بينما تقتصر الافادة الفعلية على نسبة لا تتجاوز العشرة في المئة من قواعد المسلمين في هذه الجبنة العفنة. وكل ردود الفعل القائمة على دعوات اعادة النظر بالطائف او بتوزيع الصلاحيات او الفصل الجدي بين السلطات، يرد عليها بتهويل ان دونها حرباً اهلية. وفي المحصلة. يقول المسلمون للمسيحيين: هذا ما لدينا وافعلوا ما شئتم.
ــــ في الجانب المدني، عجز من نوع مخيف، بحيث لا يتوقع لأي تحرك ان يجذب جمعاً وازناً من الناس المتضررين من هذه السياسات. ويترافق ذلك مع وجود احزاب بالية مهما تلوّنت او انقلبت على بطنها وظهرها، ومع قطاع نقابي مطلبي هو الاكثر تعفناً لناحية قلة نزاهته وقبوله العمل عند خصومه الاجتماعيين، بينما يركض بيننا حشد من المنظمات غير الحكومية، ما تلبث ان تكون مصدراً لسرقات يقوم بها افراد متورطون في اشياء اكبر منهم، او واجهات لانشطة امنية وسياسية خارجية. وواهم من يعتقد انه بالامكان كسر جدار الصمت هذا من دون اعمال كبيرة، وربما فيها شيء من الجنون.
غير أن هناك جانباً آخر للأزمة الطارئة، وهو يتعلق باول اختبار جدي للتفاهم غير العادي الذي خرق الاصطفافات السياسية التقليدية في لبنان، اي التفاهم الذي قام بين حزب الله والتيار الوطني الحر. هذا الاختبار يحتاج الى روية كي لا ينتهي الى ما هو اكثر، وسط حشود الراغبين في قلب الطاولة على الجميع. والفكرة الجوهرية، هي انه الى جانب ضرورة مناقشة العماد ميشال عون في ضرورة البحث عن صيغة جديدة لحكم البلاد، فإن هناك ضرورة لكي يدرك حزب الله ان الصمت عن فساد شركاء له في الدوائر الضيقة والاوسع طائفياً وسياسياً لم يعد يجدي، وان هذا التحدي لن يمس المقاومة، لأن خيار العماد عون لا يمثل تكتيكاً سياسياً على طريقة وليد جنبلاط، لكن، ثمة تحولات كبيرة تعصف بنا ربطاً بغياب الدولة. وعندها لن يبقى لنا ما يجب التضحية من اجله! 
 

السابق
دولاب القضاء يبرُم.. ويترك وسام علاء الدين
التالي
الاجـتماع الثـلاثي في الناقورة يناقـش اليـوم الاعتـداء الإسـرائيـلـي