المسافة البعيدة بين سوريا وجنيف

خرج مؤتمر جنيف بتفاهم روسي أميركي على دعم مهمة كوفي أنان في سوريا ومحورها وقف العنف وتشكيل حكومة وحدة وطنية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة تدير المرحلة الانتقالية بدستور جديد وانتخابات حرة.

وزيرة الخارجية الأميركية فسّرت الأمر مقدمة لإخراج الرئيس السوري من المعادلة. وزير الخارجية الروسي نفى أن يكون تنحي الرئيس من ضمن الشروط لتنفيذ القرار. هذا الغموض يمكن لطرفي النزاع أن يأخذ كل منهما الجانب الإيجابي من الموقف ويحتفظ بالاعتراض على الجانب الآخر. حكومة شراكة ووحدة وطنية كانت منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأزمة المخرج الفعلي لولا أن النظام أنكر طبيعة الأزمة واختار الطريق الإلغائي للطرف الآخر سياسياً وعسكرياً. قَبِلَ ويقبل الآن المبادرات الدولية ويراهن على التوازن الدولي الكابح لاحتمالات التدخل العسكري الخارجي. لكن في ظل هذا التوازن وهذه الحماية توغل في نشر العنف الشامل وصاعد من أدواته ووتيرته بذريعة هذا التدخل الخارجي ودعم المعارضة المسلحة.

لم يكن مفهوماً لماذا اتخذ ما اتخذ من خطوات «إصلاحية» ولمصلحة من، ولماذا انحصرت تلك الخطوات في إزالة لافتة حزب البعث عن السلطة بينما لم تمس مواقع السلطة والقرار التي كانت موضع شكوى الناس؟ هو يؤكد أن الغرب وحلفاءه لا يريدون الديموقراطية لذا يُعطيهم من كيسهم تلك الشكليات بينما يفاوض بالنار والقتال الشرس دفاعاً عن السلطة لا عن النظام. ربما كانت فعلاً هذه المناورة المحسوبة تنبع من الثقة المفرطة بأن ما يريده الغرب هو أن تغيّر الأنظمة جلدها ورموزها فقط، وقد شاع ذلك لدى جميع الحكّام العرب ولدى كل الذين فوجئوا بالفاعل الجديد في مسرح المنطقة، وهو حركة شعوبها.

اختلفت الظروف من بلد إلى آخر، لكن الغرب والحكّام تصرفوا بوحي من هذه المساومة المفترضة التي عطّلتها تضحيات الشعوب وصمودها وتصميمها. هناك إرادة للتغيير وتصميم عليه حاصرت كل محاولات الاحتواء التي لا زالت قائمة بما في ذلك أزمة سوريا. هنا تحولت الأزمة إلى صراع إقليمي ودولي، لكن إرادة جزء مهم من الشعب السوري تخطّت احتمالات التسويات بسبب حجم التضحيات وعدم وجود ضمانات فعلية لتسوية وطنية مشرّفة. يكاد المشهد برغم حجم القتل والدمار يؤكد صعوبة إيجاد لغة مشتركة أو تفاوض جدي مؤداه التعايش بين سلطة النظام وسلطة المعارضة. فمهما قيل في طبيعة المعارضة وعناصر ضعفها أو في انغماسها بالسلاح والعنف فليس هناك من وسائل عملية تنفيذية ضامنة لمصالحة، كما يفترض الموقف الروسي.

انزلقت سوريا إلى شكل من الحرب الأهلية فتحت أحشاء البلد الذي كان قبل نصف قرن عرضة لتجاذبات ومداخلات الجوار عبر حدوده الواسعة والعلاقات التاريخية الاجتماعية بين مكوّناته والدول المجاورة. ولهذه الأسباب تبدو سياسة نصف قرن من القبضة الحديدية في سوريا ومن اضطراب دول الجوار قد انتهت، حين صارت الأزمة تتعلق بالوحدة الوطنية واحتمالات تغيير الخارطة الديموغرافية وربما الجغرافية حتى في أداء جميع القوى الفاعلة. قد لا يكون التقسيم أولوية على نحو ما كانت الأمور كذلك في لبنان والعراق، لكنه يصبح خطة احتياطية تشجّع عليها القوى الدولية لتأكيد نفوذها. وطالما ليس هناك من قوة دولية فعلية ضامنة لوقف العنف وفك الاشتباك على الأرض، فالمسافة تبقى بعيدة بين الواقع السوري المفتوح على المزيد من العنف وبين التفاهمات الغامضة والجزئية في جنيف.   

السابق
كيف يكتمل انتصار المقاومة؟
التالي
اتفاق ولد ميتاً