الجميع ينتظرون واشنطن

لم تأتِ «جمعة» أمس بالحجم الذي توقّعوه وأنصارَهم بعد وصول طلائع المراقبين الدوليّين الى سوريا، لا بل اضطرّت المعارضة المسلّحة إلى تنفيذ عمليّات وصلت هذه المرّة الى القنيطرة المحرّرة على بعد أمتار من الجولان المحتلّ، في وقت تحدّث مؤيّدون للنظام عن أنّ وراء هذه العمليّة مجموعات انطلقت من هذه المنطقة المحتلّة، مشيرين إلى وجود معسكرات تدريب فيها للمعارضين.

وبغَضّ النظر عن صحّة هذه الواقعة من عدمها، فإنّ المتابعين للشأن السوريّ يرون أنّ التقدّم الذي حقّقه النظام ميدانيّاً وسياسيّاً وعزّز المواقف الروسية والصينية والإيرانية هو الذي دفع وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف أمس الى الدعوة بعد لقائه نظيره الايطالي الى تبنّي قرار أُمميّ جديد يزيد عدد المراقبين الدوليّين، عاكساً بذلك ثقة روسيّة بأنّ تقارير هؤلاء المراقبين لن تكون مختلفة عن تقارير بعثة المراقبين العرب السابقة برئاسة الفريق السوداني محمد الدابي. ويقول مراقبون في هذا السياق إنّ صدور مثل هذه التقارير سيُغلق نافذة كبيرة كانت تهبّ منها الرياح ضدّ سوريا، خصوصاً على المستوى الدولي. غير أنّ الاكتفاء بالنظر إلى جهة واحدة في الأزمة يجب أن لا يحجب النظر الى ما يجري داخل الإدارة الاميركية نفسها، حيث تبرز مواقف متناقضة وارتباك قلّ نظيره في السياسة الخارجية الأميركية، ففي حين يزور تركيا عضوا مجلس الشيوخ الاميركي جو ليبرمان المعروف بميوله الاسرائيلية وجون ماكين المعروف بمزايداته السياسية الجمهورية على الرئيس باراك اوباما ومعهما موظف في الخارجية الاميركية، ويلتقون معارضين سوريّين هناك ومنهم القياديّون في "الجيش السوري الحر" العميد مصطفى الشيخ والعقيد رياض الاسعد، يحرص وزير الدفاع الاميركي ليون بانتيا ومعه رئيس هيئة اركان الجيوش الاميركية مارتن ديمبسي في شهادتيهما أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس على التأكيد "أنّ النظام السوريّ ما زال متماسكاً، ويمسك بجيشه إلى حدّ كبير، وأنّ سوريا ليست ليبيا على أكثر من مستوى"، ويحذّران من مغامرة عسكرية أميركية في سوريا، خصوصاً في ظلّ معارضة مفكّكة، ومجهولة أحياناً… وتقول مواقع الكترونية وثيقة الصلة بما يدور في كواليس الإدارة الاميركية (ومنها موقع "فورين بوليسي") إنّ فريق إدارة الأزمة السورية في واشنطن سيشهد تعديلات جوهريّة، إذ تمّ نقل الموظف الكبير في الخارجية ديك شوليه الى البنتاغون تمهيداً لتعيينه مساعداً لوزير الدفاع لشؤون الأمن القومي الخارجي خلفاً لساندي فيرشباو، فضلاً عن تعيينه نائباً للأمين العام لحلف "الناتو"، وسينضمّ شوليه الى ذلك الفريق الذي يضمّ المدير العام لمجلس الامن القومي ستيف سايمون ومساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الاوسط جيفري فيلتمان والمنسّق الاميركي الخاص لشؤون المنطقة فريدريك هوف والسفير الاميركي في دمشق روبرت فورد، ما يحقّق للبنتاغون حضوراً أقوى في إدارة السياسة الاميركية تجاه سوريا، حيث إنّ البنتاغون يرفض الضغوط التي تمارسها شخصيّات في الكونغرس كليبرمان وماكين وفي وزارة الخارجية لتوريط واشنطن في عمل عسكريّ، ولم تخرج قوّاتها بعد من المستنقع الأفغاني بعدما خرجت من المستنقع العراقي.

ولقد عبّر ليبرمان عن هذا المأزق قائلاً إنّ الجميع ينتظر واشنطن، فالحكومة التركية أبلغته، حسب ما يقول، استعدادها للقيام بكلّ ما يطلب منها شريطة أن يأتي الضوء الأخضر من واشنطن، وإنّ المعارضين السورييّن الذين التقاهم في اسطنبول يريدون من واشنطن موقفاً عمليّا واضحاً، وقد أبلغوه أنّ ما يتلقّونه من مساعدات لا يتعدّى الدعم الكلاميّ، وأنّ كلّ كلام عن تسليح جدّي لم يتمّ حتى الآن مثلما هو مطلوب، وأنّ الدول المساندة لهم تبلغ إليهم أنّها تنتظر موقفاً نهائيّا من واشنطن قبل ان تضع ثقلها المالي والعسكري الى جانب المعارضة.

فالجميع إذن ينتظرون واشنطن، وواشنطن تنتظر الانتخابات الرئاسية، فيما أوباما يتجنّب المواقف الحادّة خوفاً من الانزلاق في سياسات يدفع ثمنها انتخابيّاً، فهو يخشى التورّط العسكري، خصوصا أنّه بالكاد نجح في إخراج نفسه من آثار الحرب على ليبيا، عِلماً "أنّ سوريا ليست ليبيا"، حسب ما قال وزير دفاعه، وأنّ روسيا والصين وإيران لن تتّخذ الموقف نفسه الذي وقفته خلال الحرب على ليبيا.

وفي المقابل لا يستطيع اوباما التراجع العلنيّ عن تصريحات سبق له أن ردّدها في غير مناسبة ودعا فيها الى تنحّي الرئيس السوري بشّار الاسد، وهو أمر باتت صعوبة تحقيقه تزداد يوما بعد يوم. ولذلك فإنّ أوساط البيت الابيض تشيع حاليّاً أنّ اوباما قد طلب حزمة جديدة من الأفكار حول طريقة التعاطي مع الأزمة السوريّة، تتراوح بين تبنّي خطة الموفد الاممي ـ العربي كوفي أنان (والتي على ما يبدو جاءت لإنقاذ الموقف الاميركي اكثر من إنقاذ سوريا) وبين الحديث عن "مناطق عازلة"، وإن كانت تدرك أنّ السعي الى إقامة هذه المناطق هو كمَن يشعل عود ثقاب في برميل من البارود.

ولذا فإنّ الأوساط التي بالغت في تطرّفها ضدّ النظام السوري تحاول، في نظر مراقبين كثر، البحث عن "مخرج آمن" من تورّطها فيما هي تتحدّث عن "مناطق آمنة وعازلة" داخل سوريا.

وفي كلّ الحالات فإنّ الأوضاع تتّجه، في رأي المراقبين، الى إقرار الجميع بأنّ النظام قد تجاوز خطر السقوط، فيما الأزمة لم تدخل بعد طريق الحلّ، لأنّ البعض ما زال يعتقد بأنّ المزيد من عسكرة الحراك الشعبي سيحقّق أغراضه.

ويلاحظ هؤلاء المراقبون مفارقة تكشف حجم التحوّلات التي حصلت في المشهد السوري، فبعد أن كانت الأطراف المناهضة للنظام تطالب بإرسال مراقبين دوليّين الى سوريا باتت الآن تشكّك بهذه الخطوة وكذلك بخطّة انان كلّها، فيما يتمسّك حلفاء دمشق بإرسال هؤلاء المراقبين على قاعدة "الشبّاك الذي تأتيك منه الريح أغلقه واستريح".

السابق
سامي: في طريق الخروج من الشرنقة
التالي
الحكومة مستمرّة بدعم الخارج