قبل ان تسقط درع المحرقة

في مساء غد (اليوم) ستبدأ وقائع يوم ذكرى المحرقة والبطولة بمراسم رسمية في «يد واسم». وستكون دور السينما والمطاعم والمقاهي مغلقة ولن توجد في التلفاز إلا برامج خاصة. وهناك من يبغضون كل المراسم والمسيرات والقيود، وكانوا يريدون لو كففنا عن الاشتغال بـ «صناعة المحرقة» وأن نصبح طبيعيين أكثر شيئا ما. ويقول آخرون انهم ضاقوا ذرعا بـ «الاحتفال» بـ «مسيرة الحياة» في اوشفيتس وانه حان الوقت للتحرر من «عقدة المحرقة» المغضبة هذه.
أنا لا أشاركهم في الرأي.

ان المحرقة هي عقدة حقا، ومن الصحيح ايضا انها جعلتنا غير طبيعيين شيئا ما، لكن يوجد لهذا تسويغ كامل. فالحديث عن واقعة لا يتصورها العقل ولم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية لخطة قضاء منهجي على شعب كامل.
ان مئات السنين من الدعاية المعادية للسامية والاضطهاد والافتراءات الكاذبة وأعمال التنكيل مهدت لـ «الحل النهائي». وحينما أخذ وضع المانيا العسكري يتدهور وأصبحت هزيمتها قريبة ايضا لم يوافق هتلر على الاستجابة لطلب قادة الجيش بأن تُحرف عدة قطارات عن وصولها الى مواقع الابادة من اجل الجهد الحربي في الجبهة. الى هذا الحد كان القضاء على الشعب اليهودي هدفا أعلى في نظره.

لم يكن ذلك جنون قائد واحد جر وراءه شعبا واحدا فقط. فحسبنا أن نتذكر المذبحة في كيلتسا، وهي مدينة في بولندا تقع بين وارسو وكركوف. وقد عاد بضع عشرات من اليهود من الناجين من معسكرات الابادة الى مدينتهم بعد الحرب في محاولة لاعادة بناء حياتهم، لكنه شاعت في المدينة آنذاك اشاعة أن اليهود اختطفوا ولدا مسيحيا لاستعمال دمه في طبخ خبز الفصح. فأحاط الجمهور بمبنى الجماعة اليهودية وقتل 42 يهوديا سكنوا هناك بطريقة وحشية جدا بحيث لم يكن التعرف عليهم ممكنا. وحدث كل هذا بعد انقضاء الحرب وتحرير معسكرات الابادة بسنة وشهرين.
ولهذا لا عجب من ان معاداة السامية القديمة والجديدة والاضطهاد والافتراءات الكاذبة والمذابح والمحرقة فوق كل ذلك، هي الرابط الذي يربط جميع مجموعات اسرائيل في الشتات في البلاد وفي العالم، وأكثر من ذلك ان المحرقة هي ايضا التي تمكننا من الحياة.

ما كانت الامم المتحدة بغير الشعور العالمي بالذنب ليستقر رأيها في 1947 على انهاء الانتداب البريطاني، وما كانت أمم العالم لتساعدنا في ساعاتنا الصعبة في حرب التحرير. ولو لم تكن المحرقة لفرضت الدول الاوروبية علينا منذ زمن عقوبات اقتصادية وعسكرية تسبب الشلل كما فعلت بجنوب افريقيا. وكانت شركات تجارية ودول في اوروبا تكف عن التجارة معنا، ومن الواضح أنها ما كانت لتزودنا بالسلاح أو لتنشئ علاقات دبلوماسية طبيعية معنا لأنها تعارض معارضة شديدة كل ما يجري في المناطق من احتلال واستمرار البناء وسياسة الفصل العنصري وعدم رغبتنا في التقدم في مسيرة السلام.
وما كانت سياسة اسرائيل في المناطق لتستطيع البقاء لولا الشعور الشديد بالذنب عند أمم العالم في كل ما يتعلق بالمحرقة. فهي تعلم ان المانيا كانت هي المبادرة حقا، لكن الآخرين شاركوا في ابتهاج في عملية الابادة أو لم يحركوا ساكنا لمنعها اذا استثنينا شواذ عن القاعدة.

لكن هل تكون المنعة الى الأبد؟ هل ستساعدنا مشاعر الذنب هذه الى الأبد؟
من الواضح أن لا، فجيل المحرقة أخذ يفنى عندنا وعندهم ايضا. ولن يكون بعد قليل شهود أحياء على الفظاعة التي حدثت وسيقول الجيل الجديد: لم تسفك أيدينا هذا الدم بل إننا لا نعرف أحدا حدث هذا في زمنه ولم تعد عندنا مشاعر ذنب.
ولما كان رأي الجمهور في الدول الديمقراطية هو الذي يقرر سياسة الزعماء في نهاية الامر فإنه في اللحظة التي تفنى فيها مشاعر الذنب وتزداد أحداث الاحتلال والفصل العنصري حدة، ستكون النتيجة غضبا عظيما على دولة اسرائيل مع نتيجة واضحة هي عقوبات كتلك التي فرضت على جنوب افريقيا تضطرنا الى الانكماش. ان أحداث «مرمرة» ورحلة التحرش الجوية والحادثة الاخيرة في شارع الغور هي تباشير اولى فقط لتغيير أخذ يحدث في العالم.
ولما كان الحديث عن مسار لا يمكن منعه فمن الواجب على قيادة حكيمة ان تتوصل في وقت قريب الى اتفاق سلام مع الفلسطينيين قبل ان تفنى مشاعر الذنب العالمية وتسقط درع المحرقة الواقية.

السابق
تأجيل مرافعة سوزان تميم
التالي
الحذر.. فخ سوري