رايات الخلافة الاسلامية تنتظر الأسير

علّمنا التاريخ أن الثورات دائماً ما تأتي من الجنوب. واذا ما قّيّض لثورة أن تبدأ من الشمال، فإن الجنوب يرفدها بعناصر الاستمرارية والانتصار. علّمنا التاريخ أن رايات الخلافة الاسلامية وصرخات التكبير في طرابلس لم تتعدّ حدود منطقة جغرافية معيّنة، رغم الحروب والأزمات، قبل أن يكرّس التاريخ نفسه ويفرض وقع "الثورة السلفية" في الجنوب، عن طريق الشيخ أحمد الأسير. الآن يحقّ للسلفيين ترداد "تكبير"، لترددّ ثورتهم "الله أكبر".

ضجّ الشمال لعقود… فثار الجنوب

أبعد من ظاهرة امام مسجد بلال بن رباح الشيخ أحمد الأسير، وصعوده الهائل في أوساط القواعد السنيّة، تبدو الحكاية وكأن الرجل تجاوز زعامات السلفيين الشماليين، مسّطراً فصولاً جديدة من فصول طائفة تبحث عن "حسن نصرالله" الخاص بها. لم تجد تلك الطائفة في سعد الحريري زعيماً، يمكنه مقارعة نصرالله، لا بل شهدت هزيمته في أحداث 7 أيار، وشهدت خروجه من البلاد بعد "انقلاب" قادته قوى 8 آذار ضده. لم تجد تلك الطائفة في الزعامات المحليّة السلفية في طرابلس من يمكنهم أن يرفعوا بيارق الثورة المضادة، واختفى صوتهم في ظلّ اشتباكات جبل محسن – باب التبانة، والخلافات الداخلية السياسية بينهم. تلك الطائفة، وجدت أن في الدول العربية حراكا، وهذا الحراك قرع أبواب سورية، وبات على مشارف لبنان، ولا أحد ممّن يتحرّكون في الشمال قادرون على قلب المعادلات الداخلية، ولو سياسياً. بدوا وكأنهم خارج حسابات هذا العالم. إلا أنهم لم يدركوا أن أي أزمة أو حرب أو نزاع تستولد "بطلاً" أو "قائداً" أو "زعيماً". ولهذه الأزمة كان الشيخ أحمد الأسير.

دهاليز لبنان
بصوت جهوري هزّ فيه مسجد بلال بن رباح في عبرا، بدأ الأسير رحلته في دهاليز السياسة اللبنانية. اعتبره البعض أنه مجرّد نسخة عن امام أو شيخ آخر، لكنه سرعان ما تصدّر نشرات الأخبار اليومية، وأحاديث الناس، حتى ممّن لا يتابعون السياسة. تطوّرت الأمور كثيرا، والمسجد لم يعد يتسع، وتتطاير شرر خطب الجمعة التقليدية المنتقدة للنظام السوري، وتصيب "حلفاء" النظام السوري في لبنان، خصوصا حزب الله. وجدت قواعد باحثة "ضالّتها" المنشودة. اختفى مفتي جبل لبنان محمد علي الجوزو، الذي لم ينجح في رسم صورة الزعامة الضائعة.

ضرب الأسير ضربته التالية وكانت متعلقة بجدال ديني تاريخي بين السنّة والشيعة، ورغم تراجعه عن تصريحاته، على اعتبار أن ما قاله كان ردّ فعل على كلام لرئيس المجلس الشرعي الشيخ محمد يزبك، إلا أن الجدل وقع. اجتذب الأسير مستمعين ومصلّين. بدأت الأطراف البعيدة تسمع هدير "ثورة الأسير"، واستجابت. بوشر توسيع المسجد، بعد "طرح الأسير للصوت". الثورة تتمددّ والقواعد تشتاق وتتمنّى. الأسير "يكبر" وعليه تظهير صورة جديدة، ليعرفه الناس. فاختار نقطة مفصلية، في لحظة مفصلية، لقول كلام مفصلي. فكانت بيروت وساحة الشهداء هي النقطة، وسقوط حيّ بابا عمرو في حمص بين أيدي الجيش السوري هي اللحظة، والكلام المدروس بعناية كان الكلام المفصلي. انتقل الأسير الى المستوى الأعلى من عمله.

الى الآخر
الى المسيحيين توجّه "اياكم والهجرة" وتابع "نحن لا نريد تحرير الاقصى فقط بل كنيسة المهد والقيامة ايضا واقول لاخواننا المسيحيين في المنطقة انتم لا تطلبون الحماية من احد بل نحن نطلب منكم الحماية من خلال بقائكم في هذه المنطقة لان اسرائيل تريد افراغ المنطقة منكم لتشويه صورة الاسلام". طمأن الأسير "لبناني أنا رغم اتهامي بالسلفية". أوحى الرجل الى أنه لا يريد نقض تنوّع او تعدّد لبنان، ما ذكّرنا بكلام سابق للسيد نصرالله في أيار 2008، بعد اقرار اتفاق الدوحة، حيث شدّد على "تعددية لبنان وتنوّعه". والى الشيعة توجّه "أنا لا أكفّرهم ودائماً أقول هم مسلمون… وإن كنا نختلف معهم، ثم إن أمي شيعية".

أعلن الرجل حربه على النظام السوري وبشراسة مع التمسّك بالحوار في لبنان. وهذا ما جعله على تماس مع النائب وليد جنبلاط، الذي يقوم بالمثل. لم يكتفِ الأسير بذلك، وازداد "الشغف" حوله، فكان لا بدّ من زيارة، وكان البقاع الساحة الرحبة لزيارة الشيخ. اجتمع العديد من المناصرين، منهم من قدموا معه من عبرا، ومنهم من لاقاه في مجدل عنجر. هاجم النظام السوري وعاد الى من حيث أتى. وضحت الأمور. صيدا، ثم بيروت، فالبقاع، اذا ستكون طرابلس قمة الزيارات. لكن لا، فالشيخ عمر بكري، أظهر "ممانعة مدللّة" للأسير، في صورة توضح أن "ليس عليك أن تقطف ما زرعناه". خصوصا وأن التيارات الاسلامية في طرابلس بالذات عرفت صدامات قاسية مع الجيش السوري في ثمانينات القرن العشرين، بالتزامن مع احداث حماة، وسوابقها ولواحقها.

الشمال
تعرقلت زيارة الأسير الى طرابلس، فعاصمة الشمال، تعجّ بحراك التيارات الاسلامية وتناحرها أحياناً، وإن اتفقت حالياً على موقف موحّد من الوضع السوري، ما شغل بالها عن الخلافات الصغيرة. وكان يُمكن، وما زال، أن تكون زيارة الأسير الى طرابلس، أكثر من مجرّد زيارة يقوم بها رجل شرق العقول والقلوب في صيدا، بل تكون زيارة من قادر على توحيد الصفوف الاسلامية بقبضة واحدة ودون اراقة دماء، مع حصر الخطاب الاسلاموي ضمن توجّه محددّ.

الآن يستطيع الأسير وحده أن يفعلها، وتدخّل بكري، سيؤدي إما الى انقسام التيارات الاسلامية، وإما الى تكريس ثنائية زعماتية بين طرابلس وصيدا، تمحي أي أثر للأحادية. لكن بكري ليس الرجل القادر على جذب كل الطرابلسيين الى صفوفه، والأسير يبقى حاجة، تظهّرت في لاوعي خطابات تيار المستقبل الذي طالما ردّد "إما نحن وإما الطوفان"، في اشارة الى ضرورة الاستعانة بالتيار ودعمه، بدلا من سقوطه وبالتالي ضياع القاعدة السنيّة في بحر سلفي وأصولي لا أحد يعرف نهايته. يبقى الأسير حاجة للقواعد السنيّة، وهو كان جريئاً في اعتبار أن "الحريري ترك أنصاره وهرب"، كما انه سيشكل حالة تصالحية في حال تأمّنت ديمومتها واستمراريتها، بين القواعد السنيّة. وسيُعتبر حالة تصالحية تُنهي الجدال بين القواعد السنيّة، وتسهّل صياغة "حسن نصرالله" آخر، لكنه سنّي هذه المرة… الله أكبر.
  

السابق
فضل شاكر يعتزل الغناء.. ويتحول للأناشيد الدينية
التالي
اعتصام ومسيرة للعمال السوريين دعما للاسد في صور