الثورات العربية وإنهاء اللامبالاة الجماعية

من نواتج الاستبداد طويل الأمد وطبائعه التي اشتغلت على مستوى البنية التحتية، الفكرية والسيوسيولوجية، في المجتمعات العربية النزعة نحو الهروب الى الماضي او المستقبل خشية مواجهة الحاضر. وهي نزعة مدمرة تؤدي الى بروز شقيقة لها لا تقل عنها شقاءً وهي نزعة اللامبالاة الجماعية والفردية إزاء الشأن العام. إزاحة الاستبداد تعني بداية القضاء على هاتين النزعتين مجتمعتين. لفترة طويلة من الزمن انتسبت هاتان النزعتان إلى أنماط سلبية من الثقافة السياسية السطحية التي اخترقت شرائح عريضة في العالم العربي سواء أكانت على مستوى الجمهور العام، أم على مستوى النخب والقيادات، أعاقت عملية هضم واستيعاب المشكلات على أسس عقلانية، وبالتالي تمهيد الوصول إلى حلول عملية. واحتلت الشعاراتية والطوباوية والحنين إلى ماض تليد مساحات واسعة من العقل الجمعي. فعوضاً عن مواجهة الحاضر الصعب والمرير ثمة حضور شبه كامل لسيكولوجيا مدمرة موزعة بين الماضي والمستقبل. فمن ناحية أولى يستحوذ الماضي والعودة إليه والتغني بأمجاده على المخيلة العربية، وصورة هذا الماضي مُتخيلة أيضاً وهي ليست واقعية إذ تُنسج لوحة زاهية ومُشرقة وخالية من العيوب، وجزء كبير من ذلك سببه مناهج التعليم التي تتفادى التعرض للمراحل المظلمة والخلافية في الماضي العربي والإسلامي بما يقود إلى بناء صورة بالغة المثالية تجعل أي مقارنة مع الحاضر، سواء الخاص بالعرب أو حتى الغرب، عملية مرفوقة بتفاخر عريض وإحباط أعرض بسبب عدم إمكانية تحقيق المثال والنموذج المُتخيل السابق.

لكن الشلل الذاتي المرافق لنسج صورة ذهبية عن الماضي لا يتوقف عند لجم آليات التأثير الفعلي والنسبي والتدريجي في الحاضر، بل يطال المُستقبل وشكل "النهضة الجماعية" التي يتوق إليها الأفراد ونخبهم، حيث يتم التنظير لتلك النهضة والخروج من المأزق من منظور ماضوي يعيد إنتاج التاريخ المنقضي (الذهبي) على شكل مشروع مستقبلي. ويرافق هذه العملية الذهنية التي تتكون في اللاوعي الجمعي وتنعكس في الخطابات السياسية والفكرية والدينية كسل فكري وسياسي مريع واطمئنان خادع بأن "المستقبل لنا" وأن كل ما نواجهه في حاضر اليوم سوف ينتهي إن آجلا أم عاجلاً، لأن مستقبلنا "المشرق" سوف يكون استكمالاً لماضينا الزاهر. بذلك يكتمل فعل سيكولوجيا الهروب الجماعي من الواقع باتجاهين، واحد باتجاه الماضي والتغني به، وثان باتجاه المستقبل والأمل به، فيما يتم استرذال الحاضر ومشكلاته وقضاياه باعتباره مرحلة ظرفية عابرة تتسم بالانحطاط والتفكك لكنها وقتية. وهذا كله لا ينتج عقلية براغماتية وعملية تواجه بوضوح التحديات التي يتعرض لها الفرد أو المجموعة، وتجترح حلولاً لها، ولا تقبل أن تنام عليها أو أن تتركها برسم التصدير للمستقبل أو الإهمال العام بما يزيد من تعفنها ويفاقم من تأثيراتها المدمرة ويوسعها. كل تلك الصورة الذهنية المتخيلة تبدأ بالتفكك عندما تواجه التيارات الفكرية والسياسية الرئيسية التي أسست لها الواقع والسياسة بعد انقضاء عهد الاستبداد.

النزعة الأخرى المرتبطة بالماضوية تتمثل في انتشار اللامبالاة الجماعية وإحالة هم الاهتمام بالشأن العام إلى النخب المستبدة او النخب المؤدلجة. وهنا تتحمل الشعوب بمختلف شرائحها ونخبها المفكرة والمسيسة أجزاء كبيرة من المسؤولية العامة عن تردي أوضاعها والوضع الكلي للعرب ودولهم وموقعهم. لقد سادت حالة مدهشة من السلبية واللامبالاة على الشعوب العربية بمجاميعها الرئيسية والعريضة، وعلى طول فترة زمنية واسعة وكادت أن تستعصي على التفكيك. ففي معظم البلدان والمجتمعات العربية تحالفت ضغوط وظروف من المفروض أن تقود نظرياً إلى انتفاضات متواصلة بهدف تغيير الأوضاع، وتكفي الإشارة إلى معدلات الفقر والبطالة وسوء توزيع الثروة مُضافاً إلى ذلك الفساد والاستبداد وما تراه غالبيات هذه الشعوب من تبعية للسياسات الغربية. لكن مع ذلك وبرغم وجوده كله فإن درجة القبول بالأوضاع القائمة على ما فيها من تردّ كانت أمراً حيًّر الكثيرين ولم تنتهِ إلا مع الثورات العربية.

يمكن بطبيعة محاولة رد تلك اللامبالاة والسلبية الجماعية العامة إلى عدد من الظروف والعوامل التي سادت آنذاك. وأهم تلك العوامل تراكم الإحباطات على مدار العقود الماضية والتي أورثت قناعات بعدم جدوى المعارضة واليأس من التغيير. فعلى الرغم من تجربة ايديولوجيات عدة في المنطقة والبلدان العربية، ليبرالية، قومية عربية، اشتراكية، إسلامية، فإن ما ترسب في الوعي العام هو أن النتيجة واحدة وهي استمرار وديمومة الفشل والهزيمة، وأن النخب الحاكمة وأياً كان لونها الأيديولوجي فإن جوهر سياساتها واحد وهو التمسك بالسلطة والدفاع عن مصالحها على حساب المصالح العامة. وقد أدى ذلك كله إلى انفصام حقيقي بين الجمهور العام والدولة نفسها وليس فقط السلطة، وحيث تمت مماهاة السلطة كأداة حكم ونخبها مع الدولة كفكرة جديدة وحداثية وما بعد كولونيالية تضم الجماعة الوطنية وتعبر عنها وتنظم شؤونها. وهكذا فقدت الدولة قيمتها المركزية في المخيلة العامة ولا تم استيعاب أهميتها الفائقة في الاجتماع الوطني، وإن حدث وتم الاعتداء على الدولة وشنت حرب عليها من قبل عدو خارجي فإن هذا الاعتداء أو تلك الحرب لن يثيرا مقاومة شرسة كما قد يُتوقع، ذاك أن الدولة والبلد المعني قد أذيبا في السلطة القائمة، أي من وجهة نظر الشعب المعني الكيان التسلطي، ولم يعد هناك فرق كبير بين الاثنين في الإدراك العام للشعب. تولد عن ذلك شعور طاغ، واع أو غير واع، بأن الدولة تفعل في نهاية المطاف ما تشاء من دون محاسبة او شفافية، وأن ما يمكن أن يتحصل عليه الأفراد منها من خدمات يأتي في سياق الانتزاع أو المنّة وليس في سياق الحقوق المعترف بها وواجبات الدولة نفسها إزاء مواطنيها. ما يهمنا هنا وما له علاقة مباشرة في موضوع هذه السطور هو أن هذه العلاقة القائمة على الشك وانعدام الثقة وغير الصحية بين الأفراد ودولهم التسلطية في غالب الحالات انتهت عملياً بسيطرة ماحقة للدولة، وبإضعاف تام للأفراد والمجتمع وتنفيس أي مفاعيل لهم تؤهلهم للقيام بدور يفرض على السلطة الحاكمة توجهات أو قرارات معينة تأخذ بالاعتبار المصالح الأوسع للمجتمع، وليس فقط نخبه الحاكمة.

السابق
طائرات ورقية في سماء غزة تضامناً مع أطفال اليابان في ذكرى الزلزال
التالي
تامر حسني: عاش طوال عمره في عذاب