نستحق أن نكون بلا تاريخ

وسط الهموم والأزمات التي يعاني منها لبنان على مختلف الصعد، شُرّعت الأبواب أمام أزمة جديدة عنوانها «التاريخ». انفجرت هذه الأزمة السبت الماضي أمام السرايا الحكومية، ولم تنته على خير حيث سقط جرحى من طلاب «الكتائب» و«الأحرار» الذين تظاهروا احتجاجا على مشروع الكتاب الجديد للتاريخ، ولم يسلم رجال الأمن من الاصابات.
باختصار بدأت الأزمة مع التعديلات التي أقرتها اللجنة الوزارية التي شكلتها الحكومة الحالية، على المشروع الذي أعدته اللجنة المختصة التي كانت قد شكلت على يد وزير التربية السابق حسن منيمنة في عهد الحكومة السابقة. ويقول المحتجون، وجلهم من قوى الرابع عشر من آذار فضلا عن التيار الوطني الحر، ان التعديلات الجديدة غيبت تاريخهم الحديث بالكامل وأجحفت في حق «ثورة الأرز» وأمجاد زعمائهم ونخبهم، فيما أطنبت في تاريخ المقاومة وقادتها والنخب المنتمية الى قوى الثامن من آذار وأسلافهم.

في ظل النكد السياسي الذي يعيشه البلد منذ العام 2005، طبيعي ان يكون النقاش في هذا الخلاف من دون فائدة وهو لن يصل الى نتيجة، لأن الأزمات الأقل وطأة والهموم المفترض أن تكون جامعة للبنانيين، لم تجد تفاهماً عليها ولا حلولاً لها منذ نحو سبع سنوات، فكيف لمسألة على جانب كبير من الأهمية ككتابة تاريخ بلد أن تجمع اللبنانيين على قاسم مشترك.

عادة تترك الدول نحو عشر سنوات الى الوراء عندما تبدأ بكتابة تاريخها. إلا ان جهابذة التاريخ في لبنان يريدون كتابة تاريخنا من الحاضر ان لم يكن من المستقبل. ولأن لبنان حالة مميزة في تركيبته، يبدو لزاما علينا ان نبدأ كتابة تاريخنا من قبل خمسين عاما على الأقل. فنحن شعب مختلف على كل شيء، بما في ذلك التاريخ، ماضيا وحاضرا ومستقبلا. ولا أحد يستطيع أن يقنعنا بأن تاريخنا المكتوب لا تشوبه شائبة، وهو ما دفع العديد من المدارس الى إلغاء دراسة التاريخ من مناهجها لسنوات طويلة.
في الماضي تناول جيلنا في المدارس تاريخ الامير بشير الشهابي على انه بطل وطني كبير. لكن مؤرخين كبارا أعادوا كتابة تاريخنا الحديث، مثل كمال الصليبي وفواز طرابلسي وغيرهما, نسفوا البطولة الوطنية للامير الشهابي الذي كان يميل مع الريح أينما مالت. وثمة نماذج كثيرة في تاريخنا المكتوب يتقاذفها التشكيك.

في الحاضر تكبر أزمة التاريخ أكثر فأكثر. فإذا كنا عاجزين عن تسجيل تاريخ شهدنا وقائعه بالأعين المجردة وسجلناها مصورة بالصوت والصورة، فكيف نصدق وقائع تاريخية جرت قبل الف سنة وأكثر ونقلها المؤرخون بالتواتر «عن هالك عن مالك عن قابض الأرواح». نحن الذين عشنا الوقائع بالحقائق والارقام، لسنا متفقين على بشير الجميل وحسن نصر الله وكميل شمعون ونبيه بري ورفيق الحريري وأبطال الاستقلال, هل كان هؤلاء أبطالا وطنيين وقادة مقاومين، أم عملاء للخارج كما يتهمهم اللبنانيون يمنة ويسرى؟

أما المستقبل فلن يكون أفضل من الحاضر والماضي، باعتبار أن أبناءنا الذين يتوارثون ثقافتنا الحميدة هم الذي سيتولون كتابة تاريخنا المجيد. وعليه فإن تاريخنا يشكل أزمة مستعصية في حاضرنا ومستقبلنا، مثلما هو في ماضينا.
في الخلاصة، معظم تاريخنا السابق، على علاته، كتبه المستشرقون وكانوا أكثر واقعية وحيادية من مؤرخينا. فإما ان نترك للمستشرقين كتابة التاريخ، وإلا فخير لنا أن نكون شعبا بلا تاريخ، من أن نخضع تاريخنا للتسويات السياسية على غرار مرسوم الأجور ومشروع الموازنة والمليارات الضائعة وأشياء أخرى على الطريق.

السابق
الشرق الأوسط: معارك في قلب دمشق.. وتصعيد في حلب رفع علم الاستقلال على جبل قاسيون
التالي
مسيرة دفن صامتة لنساء يقتلهن العنف الأسري