غرام سياسي دائم.. ومفاجآت

يحق لسمير جعجع أن يحتفي بتلك الشعبية التي يحصدها يوماً بعد يوم في «الساحة الزرقاء». ان يهلّل لإنجاز الخروج من «الشرنقة المسيحية» الآسرة. تماماً كما اعتاد ميشال عون على الاستثمار المنظّم لرصيده الذهبي، لا بل الألماسي في «الساحة الصفراء». أمكن للرجلين، مع اختلاف المقاربات، بعد العام 2005 حجز موقع ثابت لهما لدى الشريك المسلم. لكن، لاعتبارات كثيرة، تلاحق ساكن معراب «وصمة» الماضي، وتلاحق بدرجة أقل «الجنرال»، خاصة مرحلة حربي التحرير والإلغاء، فهل قلب «المستقبليون» فعلاً الصفحة الماضية مع «الحكيم»؟
لا صور مرفوعة لجعجع في الأحياء البيروتية وباقي الخزان السني شمالاً وبقاعاً، أقله حتى الآن. لكن «الحكيم» بات «حاجة»، لا مجرد «ترف مسيحي»، في الشارع المتعطّش لاستعادة بريق زعامة فقدها يوم ختمت التسوية السورية – السعودية بـ«الشمع الأحمر».
يسجّل «عدّاد» المهرجانات الآذارية لرئيس حزب «القوات» تقدماً واضحاً على حليفه أمين الجميل في كسب الشعبية والإعجاب لدى جمهور «المستقبل» وقياداته. هو الفارق بين «خطاب جعجع الواضح والصريح… وبين خطاب «الشيخ» (أمين) الذي لا نفهم عليه أحياناً ولا نعرف حتى ماذا يريد» يقول أحد قياديي «التيار الأزرق». الواضح ان البركان السوري ساهم أكثر في إزالة التباس الموقف بين الرجلين على الساحة السنية. والأوضح أيضاً ان «الحريريين» يتماهون أكثر مع مائدة معراب السياسية الغنية بـ«مقبلات المواجهة».
يعني ذلك أن الشارع الحريري لم يحتج الى «مهضّم» لتقبل ما كان يصنفه «أحد رموز الحرب الأهلية». قائد الميليشيا السابق سلّفهم وأراحهم اكثر مما فعل الآخرون: هو لا يرى ضيرا في وصول «الاخوان المسلمين» الى الحكم في سوريا. يرشحه الحريري، عبر «تويتر»، لرئاسة الجمهورية. لا يكف فؤاد السنيورة عن إبداء إعجابه المتزايد به. في الوقت نفسه، صار قياديو «المستقبل» ضيوفاً دائمين على معراب.
يقول جعجع أموراً كثيرة لا قدرة لسعد الحريري على قولها. يبدو الرجل مرتاحاً ومنسجماً مع نفسه، حين يتطرف سورياً. ليس هو من فاوض اياماً وشهوراً على تسوية «السين سين» بما تضمنته من تنازلات موجعة وليس هو من صافح بشار الاسد ونام في قصره.
على عكس ما يعتقده كثيرون، فتحت قريطم أكثر من مرة ابوابها لـ«الحكيم» قبل ان تطوّق غدراس ويُنفى جعجع الى سجن اليرزة. وتقول رواية أحد قدامى «المستقبليين» إن رفيق الحريري «سعى في مرحلة ما الى تسويق «بروفيله» لدى «القوات اللبنانية»، واستفاد من علاقته المتينة بالرئيس الراحل الياس الهراوي الذي لطالما قدّر موقف جعجع الإيجابي من اتفاق الطائف. عقدت جلسة او جلستان بين رئيس الحكومة وقائد «القوات» لم تؤسّس سوى لتكريس الافتراق السياسي البديهي عند عتبة علاقة لم تولد أصلاً. «نموذج» ايلي حبيقة، عملياً، كان الاقرب الى حسابات قريطم وسياستها السورية آنذاك».
اجتهد جعجع كثيرا منذ لحظة خروجه الى الضوء بعد احدى عشر سنة وثلاثة اشهر وخمسة ايام في زنزانة وزارة لدفاع لتغيير رأي الحلفاء به. منذ اللحظة الاولى لظهوره في مطار بيروت في 20 تموز 2005 توجّه الى «رفاقه» في «ثورة الأرز» طالباً منهم بوضوح «عدم النظر الى الآخرين معتمدين على حكم مسبق مبني على نظرتنا السابقة اليهم ابان سنوات الحرب»، مؤكداً «ان منطق هذه السنوات لم يعد قائماً اليوم». كان على جعجع «الجديد» ان يطوي آخر صفحة في كتاب «القوات» الميليشيوي بعد ثلاثة اعوام حين قدّم اعتذاره الى اللبنانيين عن الاضرار «غير المبرّرة» خلال الحرب الاهلية. بدا الاعتذار بمثابة «جرعة زائدة» في وعاء تقارب منظّم مع «المستقبل». نعم «الحكيم» أخطأ واعتذر، وفي المقابل، لا «عقدة ذنب» حريرية تجاه الشريك المسيحي الذي عاش منفياً في سجن وزارة الدفاع تحت كنف حكومات رفيق الحريري المتعاقبة!

ليس سهلاً حذف مشهد وصول العقيد جان سلوم الى غدراس مساء 21 نيسان من العام 1994 على رأس قوة عسكرية لتنفيذ مذكرة إلقاء القبض بحق جعجع، من ذاكرة الطرفين. تقول شخصية مخضرمة في «المستقبل» إن «لا مسؤولية سياسية أصلاً على رفيق الحريري حيال اعتقال جعجع. كان الراحل خارج منظومة الوصاية القضائية والأمنية، مركزاً على الملفات الاقتصادية والإعمارية بحكم توزيع المهام آنذاك».
يمكن القول انه بعد اغتيال الحريري، انضوت «قريطم» بالمعنى السياسي، تحت سقف «معراب». فقد انتهت مفاعيل «تعويذة» الوجود السوري «الضروري والشرعي والموقت» التي «نوّرت» طريق رفيق الحريري طوال عهود ما بعد الطائف، عند عتبة الرابع عشر من شباط. اكتشف «الحريريون» ان «الحكيم» كان على حق.
في الذكرى السابعة للجريمة، وبحضور جعجع، بدا الحريري الابن، المتحدث من خلف الشاشة العملاقة، مصراً على تقديم «فروض الطاعة» للخطاب القواتي «الثابت والمبدئي» من «المحتلّ» السوري ودوره «المشبوه» في لبنان، وذلك عندما لمّح مجدداً الى مسؤولية دمشق في اغتيال والده. في الخلفية، بعد الاغتيال، تقرّب «المستقبليون»، بعد اتهامهم سوريا بالجريمة، من لبنانيتهم أكثر (رفعوا وما يزالون شعار «لبنان أولا»)، وشعر «القواتيون» ومسيحيو 14 آذار، في المقابل، بأن معاداتهم للسوري لن تكون مدعاة للتشكيك بعروبتهم» على حد تعبير شخصية في «تيار المستقبل».
فعلت «الخميرة السورية» فعلها في انضاج «عجينة» تحالف «العصبيتيّن» السنّية والمسيحية بشقّها القواتي. وبسرعة البرق، تمكّن جعجع من ملء «الفراغ» الذي أحدثه خروج وليد جنبلاط من «الثورة»، غداة انضمامه الى «الجبهة الوسطية»، بعدما كانت المختارة تلعب برشاقة في ملعب «التيار الازرق» وتستطيع شد عصب الجمهور الحريري. لاحقاً، رفعت النقمة المبطّنة على الحليف الدرزي «المتلوّن» رصيد الحليف المسيحي المتحرّر من «هواجس» لبنانية وسورية لا تحصى ولا تعد.
تراجعت أسهم الزعيم الدرزي. بات «الحكيم» مرجعية مؤثرة في تحديد «لهجة» فريق 14 آذار. خطاب «ديكارتي» يفنّد أخطاء الخصم وعيوبه بهدوء وبرودة أعصاب، ومجال «حيوي» واسع لإطلاق النار على سلاح «حزب الله» و«ديكتاتورية» الجارة من دون حفظ خط الرجعة.
لا مجال للمفاضلة بين سمير جعجع وأمين الجميل. رئيس حزب «القوات» خبير كبير في النفخ بالبوق الغرائزي، وصدى خطاباته يتردّد في الأزقة السنية. أما «فخامته»، فيصرّ على اعتماد الدبلوماسية والمهادنة وتجنب الخيارات «المتطرفة». أمر آخر لا يقل أهمية. بغياب «الشيخ سعد» أحسن «الحكيم» في التقاط الفرصة. قياديو «المستقبل» لا يجدون حرجاً في توضيح الصورة أكثر: «في ذكرى 14 شباط السابعة في «البيال» تساوت طلّة الرئيس الحريري بالأهمية مع خطاب سمير جعجع الناري. نعم «الحكيم» لا يكفّ عن مفاجأتنا».
برغم الرصيد العربي الذي يمتلكه الرئيس أمين الجميل منذ زمنه الرئاسي في الثمانينيات، وبرغم «اللارصيد» القواتي، نجح سمير جعجع في ولوج كل أبواب «الاعتدال العربي»، مستفيداً من تجيير سعد الحريري بعض رصيده، دعماً سياسياً خليجياً من هنا ودعماً مالياً خليجياً من هناك.
وعدا عن الزيارة المعلنة لرئيس حزب «القوات» الى الرياض لتقديم التعزية بوفاة ولي العهد السعودي، تؤكد اوساط في «تيار المستقبل» ذهاب جعجع أكثر من مرة الى السعودية في زيارات بقيت كلها بعيدة عن الاعلام. يتحدث آخرون عن علاقة وثيقة باتت تربط معراب بالدوحة، تجلّت فصولها الأخيرة في الاجتماع المطول الذي عقد بين رئيس حزب «القوات» ترافقه زوجته النائبة ستريدا جعجع وأمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ووزير الخارجية حمد بن جاسم وبعض المسؤولين القطريين في ختام زيارة رسمية دامت ثلاثة أيام.
حجزت الارزة الخضراء موقعاً متقدماً عند الجمهور الازرق الذي أصبح يصفق لـ«الحكيم» بالحرارة نفسها التي يصفق فيها لـ«شيخه». ماذا ايضا؟ اذا كان سعد الحريري قلقاً من الصعود المفاجئ لبعض التيارات السلفية، فان سمير جعجع غير قلق أبداً من «حالة» الشيخ أحمد الاسير. عبر «الحكيم» عن ذلك من قطر، لا بل أبدى إعجابه بجرأة الأسير و«طمأنته» المسيحيين. هل يغير سعد رأيه أم جعجع؟ لننتظر ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.

السابق
ماذا يخيف إسرائيل: إيران أم السلام؟
التالي
هبي: لا يمكن لأي طائفة تقديم ضمانات لأننا كلنا اقليات