مشروعان مضادان

طبيعي ان تتعثّر المصالحة الفلسطينية- الفلسطينية. الامر عائد الى غياب القدرة لدى طرفي المصالحة على ايجاد مضمون لها. هربت «فتح» الى المصالحة بسبب الازمة العميقة التي تعاني منها من جهة وفي غياب الافق السياسي من جهة اخرى. هناك انسداد كامل للافق السياسي لسببين اولهما رفض اسرائيل للسلام، ايّ لام عادل، والآخر عدم اعداد السلطة الوطنية نفسها لمثل هذا الاحتمال. امّا «حماس»، فقد اعتقدت، ولا تزال تعتقد، ان المصالحة ستمكّنها من تحقيق هدفها المتمثّل في تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني، أي نقل حال البؤس والتخلّف التي تعاني منها غزة الى الضفة الغربية…

قد يتمكّن الرئيس محمود عبّاس (ابو مازن) يوما ما من تشكيل حكومة وحدة وطنية تحلّ مكان الحكومة الحالية المستقيلة التي يرأسها الدكتور سلام فيّاض. لن يؤدي ذلك سوى الى مزيد من الضياع الفلسطيني في غياب المشروع السياسي الواضح الذي يمكن ان يسمح بمواجهة الاحتلال الاسرائيلي من جهة وتخلّي حكومة بنيامين نتنياهو عمليا عن خيار الدولتين من جهة اخرى.
مثل هذه الحكومة التي يفترض ان تشرف على انتخابات رئاسية وتشريعية لا يمكن ان تخدم سوى «حماس» الساعية الى التخلّص من حكومة سلام فيّاض بصفة كونها حكومة تحظى بثقة المجتمع الدولي ودعمه. انها حكومة مقاومة فعلا للاحتلال ومعادية له نظرا الى انها جعلت من الضفة الغربية ارضا غير طاردة لاهلها.

يخشى بكلّ بساطة ان يكون الهدف الوحيد لـ «حماس» من خلال الاستجابة للجهود الخيّرة الهادفة الى تحقيق المصالحة التخلص نهائيا من حكومة سلام فيّاض التي تشكّل حاجزا في وجه تكرار تجربة غزّة في الضفة الغربية. فاللافت ان كلّ ما فعلته الحركة الاسلامية، اقلّه حتى الآن، هو استغلال المصالحة للامساك بغزة مغلقة كل الابواب في وجه امكان استعادة «فتح» اي موقع لها في القطاع، حتى المواقع التي ترمز الى القادة التاريخيين للشعب الفلسطيني، على رأسهم ياسر عرفات وامير الشهداء خليل الوزير (ابو جهاد).

في ضوء الضعف التي تعاني منه «فتح» في هذه الايام، خصوصا بسسب الانقسامات التي تهدد الحركة وغياب الرؤية الواضحة للمستقبل، يفترض في الحركة التي وضعت فلسطين مجددا على الخريطة السياسية للشرق الاوسط ان تعيد حساباتها. فالمعركة ليست مع «حماس»، بل مع مشروعها السياسي القائم على مهادنة الاحتلال والانصراف الى ممارسة السلطة حتى ولو كان ذلك على حساب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، على رأسها حقه في اقامة دولته المستقلّة «القابلة للحياة».
ان تجربة غزة منذ الانسحاب الاسرائيلي صيف العام 2005 لا تشجّع على مصالحة من اجل المصالحة. مثل هذه التجربة تحتّم على كل الاطراف الفلسطينية المعنية، بغض النظر عن اي ايديولوجية من اي نوع كان، التفكير بطريقة واضحة. وهذا يعني التزام المشروع الوطني المقبول من المجتمع الدولي. لا يمكن للفلسطينيين التخلي عن مشروعهم الوطني الذي هو ثمرة ما يزيد على ستة عقود من النضال السياسي والعسكري. اسم المشروع الوطني الفلسطيني البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي تشنّ اسرائيل حربا شعواء عليه نظرا الى ان هدف حكومة نتنياهو تكريس الاحتلال لجزء من الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.

هل المصالحة الفلسطينية- الفلسطينية خطوة تصبّ في مواجهة المشروع الاسرائيلي؟ الجواب نعم كبيرة، شرط قطع الطريق على استعادة تجربة غزة في الضفة الغربية. كلّ ما فعلته «حماس» في غزة منذ العام 2005 يتمثّل في تسهيل مهمة الحكومات الاسرائيلية المتلاحقة بدءا بحكومة ارييل شارون الذي اتخذ القرار القاضي بالانسحاب الاحادي الجانب من القطاع.
منذ اليوم الاوّل للانسحاب الاسرائيلي من غزّة، الذي استهداف «الامساك بطريقة أفضل» بالضفة الغربية، حسب تعبير دوف فايسغلاس مدير مكتب شارون وقتذاك، نفّذت «حماس» كلّ المطلوب منها اسرائيليا. زادت اوّلا فوضى السلاح في غزة، ثم كان الانقلاب الكبير منتصف العام 2007، وهو انقلاب ادى الى خروج «فتح» من القطاع. توّجت تصرفات «حماس» باطلاق الصواريخ في اتجاه اراض اسرائيلية. كان كلّ صاروخ تطلقه «حماس» وغير «حماس» هدية من السماء للحكومات الاسرائيلية التي لم تتوقف عن ترديد ان «لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه».

بعد استنفاد نتنياهو لشعار غياب الشريك الفلسطيني، لجأ الى المطالبة بالتفاوض ولكن «من دون شروط مسبقة»، اي من دون مرجعية واضحة للمفاوضات. مثلما تريد «حماس» مصالحة فلسطينية من اجل المصالحة كي تستغل الوقت للتسلل الى الضفة الغربية تمهيدا لوضع اليد عليها، تريد اسرائيل مفاوضات من اجل المفاوضات.
لا شكّ ان «فتح» في وضع لا تحسد عليه. انها في مواجهة مشروعين مضادين للمشروع الوطني الفلسطيني. هناك مشروع حكومة نتنياهو ومشروع «حماس». المشروعان يلتقيان عند كسب الوقت والرغبة في تكريس الاحتلال. لو كانت «حماس» بالفعل ضد الاحتلال، هل كانت مانعت في ان تكون غزّة نموذجا مصغّرا للدولة الفلسطينية المستقبلية، خصوصا بعد انسحاب اسرائيل من القطاع انسحابا كاملا؟

ليس صحيحا ان «فتح» لا تمتلك خيارات في مواجهة المشروعين المضادين. هناك خيار التمسّك بحكومة سلام فيّاض اوّلا نظرا الى انها الحكومة الوحيدة التي تضمن استمرار تدفق المساعدات الغربية. هذه الحكومة هي افضل شيء حصل للفلسطينيين منذ سنوات عدّة.
في النهاية، تحتاج المصالحة الى اقناع «حماس» بانه مثلما اعترفت، بعد فوات الاوان طبعا، بانّ الصواريخ التي تطلق من غزة تخدم اسرائيل، يفترض بها الاعتراف قبل فوات الاوان بانّ لا بديل من المشروع الوطني الفلسطيني قاعدة لاي تحرّك سياسي مستقبلي. من دون هذا الاعتراف ستظلّ المصالحة الفلسطينية- الفلسطينية اقرب الى عملية هروب الى امام اكثر من اي شيء آخر.

السابق
لا علم لبنانياً في الساحة
التالي
فوز بوتين بالرئاسة بنحو 60 في المئة من الأصوات.. هل تبدّل الموقف من دمشق؟