الحل العسكري المستحيل

جمعة الأمس في سوريا كانت استثناء يؤكد القاعدة التي رسّختها الشهور الأحد عشر المنصرمة من الثورة، والتي تفيد في أصلها وفصلها أن الفرز اكتمل بين الشعب السوري من جهة، والقيادة السلطوية من جهة ثانية، وأن شيئاً أيّاً يكن لن يُعيد تلحيم الزجاج الذي انكسر.
الاستثناء تبدّى من خلال تظاهرات شجاعة سُجّلت في دمشق وحلب أكثر من باقي المناطق التي اعتادت الخروج في وجه السلطة أيّاً كانت "الظروف" المواجهة: النار والقنص والدبابات، أو المطر والبرد والثلج.. والاستثناء تبدّى بعد ذلك، من خلال استمرار تلك التحركات الميدانية رغم المذبحة الجارية في حمص وبعض جوارها، ورغم الإعلان الطنّان عن الحسم العسكري، وتوافر ما يحتاجه ذلك الحسم من آليات محلية، ومظلاّت خارجية روسية ـ إيرانية تحمل ما هو أكثر بكثير من مجرّد الدعم السياسي والإعلامي للسلطة الدمشقية.

لم يتوهم الثائرون ولا مرّة (والتكرار واجب: ولا مرّة) ان المواجهة مع السلطة السورية تشبه غيرها من المواجهات التي شهدتها دول عَصَف في بنيانها ربيع العرب.. ولم تُسجّل واقعة واحدة، تشير الى أن السوريين من درعا الى جسر الشغور الى حمص وحماه، افترضوا ان سلطة الأسد يمكن أن تكون قريبة ولو على مسافة مئة ألف كيلومتر سياسي أو ثقافي أو تربوي أو أدائي أو أمني أو أخلاقي، من سلطة زين العابدين بن علي أو سلطة حسني مبارك (مثلاً) أو حتى من سلطة علي عبدالله صالح! بل بالتجربة والمراس والمعايشة والمعاينة المباشرة، يعرفون منذ اللحظات الأولى لتفتّح الوعي، ان تلك السلطة، لا يوازي بطشها وعنفها وجبروتها ودمويتها شيء في هذه الدنيا، بل لا تُقارن(من قريب) إلا بسلطة صنوها البعثي العراقي أيام صدّام حسين.

 
لم يتوهّم الثائرون السوريون مرة واحدة، انهم في نزهة ربيعية أو انهم يطلبون التغيير من منطلقات الترف الفكري، أو التشبّه بالشعوب العربية التي نشدت ذلك التغيير وحققته، ولذلك كانت المناشدات بطلب العون والمساعدة تتمة طبيعية للشعارات المرفوعة في وجه السلطة ورموزها.
..من توهّم وأمعن في وهمه، هم أساطين السلطة من قمّتها الى فروعها (عندنا!) الذين دأبوا في سياق تنازلي على القول بداية انه لا يجري شيء في سوريا! ثم ان التظاهرات التي تُبثّ صورها ليست إلا توليفات من الأجهزة التلفزيونية المعادية! ثم تطور الأمر (نزولاً أيضاً) الى القول إن ما يحصل هو "مواجهات مسلّحة مع عصابات إرهابية"، وصولاً اليوم الى القول إن الحسم العسكري على الأبواب!

..قد تحسم الآلة العسكرية الأسدية المعركة في حمص رغم الشك المتنامي في ذلك!؟ لكن إن تم الأمر فإنه لن يؤدي الى ربح الحرب.. الحسم العسكري شيء و"الحل" العسكري شيء آخر.. قبل حمص كانت جسر الشغور، وكانت حماه، وكانت الزبداني، وكانت درعا البلد، لكن كل تلك "الفتوحات" الأمنية والعسكرية لم تؤدِ الى إخماد الثورة السورية.. ولا شيء راهناً يؤشر الى إنكسار تلك المعادلة.
بهذا المعنى، كان من الطبيعي أن تُرى تحركات مستجدة في دمشق وحلب أكثر من غيرهما وستُرى أكثر فأكثر، في موازاة تحركات الآلة العسكرية السلطوية داخل أحياء حمص.. وهذا ليس وهماً، إنما حقيقة رسخّتها حوادث الشهور المنصرمة.

 

السابق
مع 14 آذار ولكن بعد تحررها
التالي
الانوار: البحث في حل بالتقسيط لازمة الحكومة ينطلق من مجلس النواب