هل تنطلق شرارة حرب طائفية من باب التبانة وجبل محسن؟

«زمن الصراعات، الذي يفترض أنه ولّى منذ 35 عاماً، لم ينتهِ بعد… ففي إطار التجييش والاصطفاف المذهبي القائم، يؤكد مصدر مقرّب من الحزب العربي الديموقراطي، «أن لا شيء مستبعداً من سلفيي باب التبانة الحركيين، العازمين على تحويل طرابلس الى إمارة إسلامية. لن يتركوننا وشأننا طالما يفشل اخوانهم في سوريا في إسقاط النظام. أما إذا سقط النظام، وهذا لن يرونه إلا في أحلامهم، فهم عازمون على تهجيرنا والقضاء علينا».

مع تسارع الأحداث والتطوّرات الدراماتيكية في المشهد السوري ومرحلة الحسم العسكري التي بدأها الجيش السوري في حمص، تتركّز الأنظار اليوم على نقاط التوتّر على السّاحة اللبنانية، وتحديدا على منطقتي جبل محسن التي تقطنها أغلبية علوية وباب التبانة ذي الغالبية السنّية، واللتين تشهدان توترا طائفيا كبيرا يعود إلى عام 1976، ويستمرّ جرحا نازفا لم يُضمد بعد، ويخشى أن ينفجر في أيّ لحظة…

وبدأت التوتّرات الأمنية تبرز جليّاً الى الواجهة، مع تساقط قذائف الانيرغا والعبوات المتفجّرة تباعاً على جبل محسن، مجرى نهر أبو علي، مروراً بـ "بورة مهجورة" في محلة الغرباء، الى شارع سوريا، فنزلة الأميركان في محلة التبانة في طرابلس… ما استدعى انتشارا مسلّحاً في مناطق التبانة وجبل محسن، رافقه انتشار مكثف لعناصر الجيش اللبناني في المنطقة.

وفي جولة ميدانية، أمضَت «الجمهورية» يوماً في أحياء التبّانة مع أهلها الطيبين، و«صَدمتها» مشاهد أحوال عائلاتها وكأنه مكتوب عليهم العيش وسط كابوسين: الفقر والمذهبية.

ويقطن في شارع سوريا في وسط باب التبانة نحو 1200 عائلة، معظم منازلها بَدت عليها علامات الحرمان وآثار المعارك، وغَطّت جدرانها صوَر لشبّان قتلوا خلال الحوادث، وكتبوا في أسفلها كلمة شهداء.

وتشهد أكثر المحال التجارية وورَش الحدادة وبويا السيارات حركة طبيعية، يرافقها أصوات الباعة على عرباتهم، ولسان حالهم يقول: «ماذا بعد؟ ومتى ينتهي هذا النوع من المباريات التي لا تنتج إلّا الدماء والحقد؟»

ويقول أحد سكّان الحي الذين التقيناهم: «نحن نعيش كل يوم بيومه، ولا نعرف ماذا ينتظرنا غداً، والشغل واقف منذ بدء المعارك».

ويؤكّد شاب آخر: «انّهم (العلويون) يمنعون سائق سيارة إذا مَرّ في شوارعهم من رَفع صورة الشهيد رفيق الحريري».

وعند «حَشر» هؤلاء بالأسئلة عن المعارك وضراوتها، يعودون بالذاكرة الى الثمانينيات، وكيف كانوا يعانون ممارسات السوريين.

ويلفت رجل في الأربعينيات من العمر: «نحن مع التهدئة وبَدنا الدولة، وهذا هو منطق السلفيين أيضاً».

أما العلويّون في جبل محسن، فيسمعوننا مقاطع من خطب لمشايخ المساجد تدعو الى «الجهاد» ضد العلويين واستئصالهم وطردهم من طرابلس، الامر الذي كان محلّ اعتراض المفتي الشعار واستنكاره، على حد قولهم ايضاً.

من باب التبانة الى جبل محسن، الذي بدا أكثر هدوءاً، كما يفيد أهله من موقعهم الجغرافي المطل على الاحياء السنية. يلمس زائر جبل محسن ان الصور نفسها في باب التبانة، وهي تتكرر في المحلتين: منازل كثيرة تكتظّ في هذا الحي الفقير الذي تزيّنه أكوام النفايات على جوانب الشوارع.

اتخذت وحدات في الجيش اللبناني سلسلة من المراكز والنقاط في وسط أحياء جبل محسن وعلى مداخله، ويكرّر الأهالي انّ «ثمّة تعليمات من قيادات الحزب العربي تشدّد على التعامل الإيجابي مع الجيش».

وتعبّر أم لعائلة مؤلفة من خمسة اولاد عن عدم اطمئنانها لمَسار الأوضاع في طرابلس، وتسأل: «الى متى سنستمرّ في العيش هكذا؟ نريد تأمين حياة محترمة لأولادنا».

في هذا المنزل العلوي المتواضع زحمة أطفال، واللافِت هو رَفع صوَر للسيد المسيح والسيدة العذراء في الصالون. وتقول صاحبة الدار: «نحن لا نعرف التفرقة، ونقول للجميع، ولا سيما جيراننا في طرابلس، اننا نريد العيش في وئام. ونناشد نوّاب طرابلس والمرشحين للانتخابات، أن يخففوا من تصريحاتهم الاستفزازية حيال أهالي جبل محسن».

يتحدث «أبو أحمد» الناشط في الاحياء العلوية بزَهو عن وقفات شبابه في المواجهات، ويؤكد «أننا لا نريد قتال أحد، ولسنا ورقة في أيدي هذه الجهة أو تلك، والايام ستثبت هذا الامر حتى لو جَمعوا كل السلفيين لمواجهتنا».

 ويؤيّده الشاب حسين داعيا إلى «ترك الامر للجيش، ولدينا كامل الثقة بهذه المؤسسة».

ويروي رجل خمسيني: «يتهموننا بأننا ننفذ سياسة السوريين في طرابلس، ولكن نَسي هؤلاء (سياسيون ونوّاب طرابلسيون) كيف وَقفوا، بل وقف الى جانبهم (نائب الرئيس السوري السابق) عبد الحليم خدام (ووزير الداخلية الراحل) غازي كنعان، وهل هي العدالة والديموقراطية ان يطالب البعض بتهجيرنا من طرابلس؟»

ويسأل: «من يتحمّل مسؤولية تهجير العلويين من طرابلس؟ وهل مصلحتنا نحن الـ50 ألف شخص ان نقاتل 500 ألف؟ لذلك، نحن ندعو الى العيش معاً في هذه الارض العزيزة على قلوبنا، ولن نسمح لأحد بالتشكيك في لبنانيتنا».

بعد هذا النهار الطويل، يخرج زائر باب التبانة وجبل محسن بحصيلة مَفادها أن الاهالي يعيشون وسط هدنة هَشّة معرضة للاهتزاز، لأن الثقة مفقودة بين أبناء المحَلّتين، الذين تجمعهم الهموم والهواجس نفسها.

ولا يُخفى على مَن يصل الى هاتين الضفّتين، المتشابهتين الى حدٍّ كبير من حيث الهموم والحرمان والاهمال والفقر المدقع، الصراع القائم بأشدّ صوره قتامة وبشاعة وخطورة، ما يثير مخاوف من جولة جديدة من العنف والدم انعكاساً للازمة السورية.

وفي هذا الاطار، تُطرح تساؤلات كثيرة، بدءا بالجهة المسؤولة عمّا حصل وقد يحصل، مرورا بالمستفيد مما يجري، وصولا الى تساؤلاتٍ عن نتيجة الاحتقان المتصاعد بين الطرفين…

وفي حين رفض نائب الأمين العام للحزب "العربي الديموقراطي" رفعت علي عيد اعطاء أي تصريح، يقول مصدر مقرّب من الحزب أنّ "حرب الثمانينات لم تشهد الأحقاد المتوارثة اليوم"، ويصف الوضع في المدينة بـ"السيّئ"، مؤكداً أنّ "الصراع اليوم هو صراع سياسي بامتياز". ويضيف: لن نقبل كعلويين أن نكون "فشّة خلق".

ويرى المصدر أنّ "السلفيين يتطاولون على الجيش اللبناني ويتهمونه بالخيانة والتآمر عليهم"، لافتاً الى أنّ "هؤلاء يؤكدون أنهم لن يتردّدوا في الهجوم وضرب الجبل، اذا دخل الجيش الى وادي خالد".

واذ يلفت الى أنّ "جوهر المشكلة يتخطّى عنوانها العريض سنّي – علوي، ولم يعد خافياً على أحد أنّ ثمة طرفين في العالم العربي، الأول يمثّل المقاومة، والثاني يعمل وفق أجندة المشروع التقسيمي الذي يريد تجزئة المجزّأ في المنطقة"، يقول إنّ "أجهزة مخابرات عالمية وعربية ومحلّية مشبوهة تتعامل مع الأميركيين والاسرائيليين".

وعن الانعكاسات المحتملة اذا سقط النظام السوري على الوضع بين باب التبانة وجبل محسن، يجيب: "في تلك الحال، سوف تسقط المنطقة العربية بأكملها في المجهول، وحينئذ سيكون من تحصيل الحاصل ان تشتعل في كل الامكنة ومنها طرابلس، لأن هذه الفرضية لا تتعلّق بنظام فحسب، بل تتعلّق بمصير حلف يضم ايران وروسيا والصين ودول اميركا اللاتينية والبرازيل والعراق وسوريا ولبنان".

وإذ يؤكد المصدر أنّه "إذا ما تطوّرت الأوضاع بين الطائفتين السنية السلفية والعلوية، فسيمتدّ ذلك تلقائياً على سائر الطوائف، يسأل: "هل يترك المسيحيّين في شأنهم من يعمل على تطهير طرابلس من العلويين سعياً لإنشاء إمارة إسلامية؟"

يتابع: "رأينا النموذج في العراق حيث هُجِّر 700 ألف مسيحي، ونرى النموذج في مصر، مثل ذلك يجعل رقاب كل الأقليات تحت السكين، وحتى اخواننا الدروز والأقليات كلها، رقابها تحت السكين. لا يعتقدنّ أحد من الأقليات بأنه مستثنى، او يقول إنني اميل الى فلان وهو يحميني، لا احد يحمي أحداً. اثبت التاريخ أنّ الأقليات مجتمعة مع بعضها تشكل نوعا من الحماية لبعضها". ويعتبر أنّ "اجمل ما في ازمة سوريا هو انه اذا فرطت الأمور فسيدفع الكل ثمناً، وليس من مصلحة احد الحركشة اكثر من ذلك. والأميركيّون لن يحزنوا علينا أبداً".

ويكشف المصدر أنّ "هناك أطرافاً إسلامية بدأت تنشط بشكل كثيف في عكار وطرابلس وتقول عنّا وعن أهالي جبل محسن أننا نقوم بتجديد ولائنا للرئيس بشار الأسد، وهذه ليست تهمة، فنحن لا نخجل بذلك، بل نؤكد ولاءنا للرئيس الأسد ولحركة حماس ولجميع قوى الخط المقاوم، وهذا الولاء أفضل من أن يكون ولاؤنا للاميركيّين ولمن يقسمون المنطقة العربية ويتسبّبون بالفتنة المذهبية". ويشير الى "المحاولات التحريضية المتكرّرة التي يعمد اليها السلفيّون، بدءا بالأئمة الذين يستغلّون الجوامع للتعبئة المذهبية، مرورا بالأعمال الاستفزازية التي يلجأ اليها الشباب السلفيّون لافتعال مشاكل فردية تؤدي في معظم الأحيان الى الضرب والاقتتال وقد يتطوّر الوضع أحيانا الى إطلاق نار". ويضيف: تابعنا تظاهرات القوى الإسلامية التي وجّهت فيها شتائم للطائفة العلوية، ولكن لن نردّ، فليس لنا مصلحة في إثارة أي إخلال بالأمن، إلا أننا نؤكد لهم بأننا لسنا خائفين من مواجهتهم، "ما بيطلع منن شي إلا الغدر ووجع الراس"، وكل ما نريده هو العيش بسلام وحرّية وأمان للتمكن من تربية أطفالنا في أجواء سليمة وصحّية، ومن يريد أن يحارب النظام في سوريا، فليذهب الى سوريا ويواجهه ويدعنا وشأننا".

ويعتبر الحزب العربي الديموقراطي أنّ "الكرة في ملعب الجيش اللبناني والسلطة التي تملك القدرة على اجتثاث المشكلة من جذورها والمحافظة على أمننا وسلامتنا، وإلا فستستمرّ المعاناة من توتّرات أمنية متلاحقة، وفي حال تلكأت مؤسسات الدولة عندها سنكون بالمرصاد"، مؤكداً تضامنه مع الجيش.

                                                                                                                                                                                      

موقف التبانة

في المقابل، تلفت فعاليات منطقة التبانة الى أنّ "هناك عددا كبيرا من أبناء هذه المنطقة، قتلوا في مجزرة وقعت خلال عام 1986 يقدّر بنحو 600 الى 700 قتيل وهناك عدد لا يزال حتى الآن في المعتقلات السورية وبعضهم مفقود منذ حينه، ومنهم من قتل تحت التعذيب، ومنهم من أعدم". وتقول: "اذا سقط النظام لن نفتح اي معركة مع جبل محسن، بل ستكون معركتنا مع القضاء اللبناني لاسترداد حقوق الشهداء والمعتقلين من ابناء هذه المنطقة على غرار ما حصل مع حزب الله بعد تحرير الجنوب من الاسرائيليين".

وترى أنّ "هناك اطرافا تعمل على إثارة البلبلة في التبانة، واتهموا طابورا خامسا بأنه يعمل على توتير الاجواء من خلال رمي القنابل ليلاً"، وتشدّد على أنّ "أهالي وفعاليات التبانة متمسّكون بالعيش المشترك وليس لهم مصلحة في عودة المواجهات الى مناطقهم، لا سيّما أنّ هناك منازل تضرّرت بشكل كبير جرّاء الأحداث الأخيرة، ولغاية الآن لم يتمّ التعويض على الأهالي المتضرّرين الذين لم يحصلوا الا على الوعود الكاذبة". وتضيف: "نحن لا نفكر في ان نقتلع الطائفة العلوية من هنا وليس لدينا اي تنظيم يفكر في هذا الأمر، لكن للأسف الاخوان في الطائفة العلوية يربطون مصيرهم بمصير شخص بشار الاسد. نتفهم هواجس الطائفة العلوية في لبنان، لكننا لا نتحمّلها وليس عندنا اي شيء ضدّهم، لكن عليهم ان يحفظوا مشاعرنا، وعندما يطلقون النار ابتهاجاً بخطاب للأسد، فهُم لا يحفظون مشاعر جيرانهم، ونحن جماعة نخاف الله ونريد ان نتعايش مع كل الطوائف".

وتؤكد الفعاليات حرصها على الامن والاستقرار وتدعو القوى الامنية الى "الضرب بيد من حديد كلّ من تسوّل له نفسه تعكير الاجواء الامنية في مناطق التبانة او القبة".

وتشير المصادر إلى أنّ "باب التبانة -وفق تقارير دولية- هي المنطقة الأفقر في العالم، وهي تعاني من فقر وبطالة وتسرّب مدرسيّ بنسبة كبيرة، وهذه الأمور تساهم -إضافة للشحن المذهبي والسياسي- في حصول توتّرات واشتباكات مسلّحة". 

السابق
آمال الجنرال تندثر..!
التالي
الكتيبة الإسبانية تنير بني حيّان بالطاقة الشمسية