لا عودة لسياسات الإلغاء

وقعنا أسرى التأويل السياسي السائد في خطابات الأنظمة العربية ومعارضاتها. كانت الأنظمة تهول وتضخم من خطر الإسلاميين، وكان الإسلاميون يستسيغون تعظيم شأن أفكارهم واستجابة الجمهور لها. علينا طبعاً ان نقبل ونفهم كيف تقدّم القوى السياسية نفسها ولا نقلل من أهمية وفاعلية الأفكار والثقافات والهويات في صناعة التاريخ. لكن ما اغفلناه حتى الآن يساهم في تبرير أمور كثيرة وفي تحوير جزء أساسي من الوقائع.
لم تظهر الحركات الإسلامية فقط في هذا «الربيع العربي». جذور هذه الحركات تعود إلى الربع الأول من القرن الماضي ومعارضتها النشطة قائمة منذ أواخر الستينيات.
أعطت الثورة الإيرانية حافزاً جديداً لحركات الإسلام السياسي وجذبت إليها الشيعة العرب في العراق ولبنان خصوصاً، وشكلت مرجعية ومثالاً لكي يخرجوا من حال التهميش والتمييز اللذين عانوا منهما. كما أعطت نموذجاً للإسلام السياسي السني ومحرضاً سلبياً لكي يزيد من طموحه ومن شرعية تقدمه إلى السلطة.
لكن المعارضات الإسلامية بفرعيها السني والشيعي كانت قد نمت في بيئات اجتماعية عانت من سياسات الحرمان. اغتذت الحركات الإسلامية من أزمات اتخذت شكل الإقصاء السياسي إلى جانب التداعيات الاقتصادية. في واقع الأمر عانى شيعة العراق ولبنان والبحرين من أوضاع اجتماعية ضاغطة مع تمييز سياسي واضح. أما السنة في مصر وتونس والجزائر والمغرب واليمن فلم يعانوا من التمييز المذهبي، لكن عبء القمع السياسي وقع عليهم كجماعات كانوا يتصدرون المعارضة. أما في سوريا فقد تحولوا إلى الطرف الوحيد منذ الستينيات الذي يقاوم ترييف النظام ونخبته المحدودة وسياسته الاقتصادية والاجتماعية وثقافته.
لم يجهز الإسلاميون اليوم على فكرة العروبة، هم ورثوا فقط خواءها السياسي عندما صارت قشرة متفسّخة لأنظمة لم تعد أولوياتها تتعلق بهموم العرب وشعوب العرب وقضاياهم.
تأخرنا كثيراً عن رؤية العالم العربي في تفككه إلى مجموعة متنافرة من السياسات والمصالح والتحديات. وتأخرنا أكثر عن إدراك خطورة تلاعب الأنظمة بالنزاعات الدولية والإقليمية لضمان استمرارها وليس لإنقاذ المصالح العربية الأساسية.
يكرر الإسلاميون اليوم تقديم نسخة معدلة عن خطابهم بتأثير المناخات الفكرية والسياسية والاجتماعية المحيطة. لكن الأبرز لا يزال أنهم حركات اديولوجية تسقط مفاهيمها على الواقع في زمن انهيار الاديولوجيات الشمولية لمصلحة الكيان الفردي الحر. يغطي الإسلاميون التناقضات الاجتماعية بالدعوة إلى التضامنات والتعاضد من أجل وحدة الكيان السياسي للجماعة. غير ان الحكم الفعلي عليهم يأتي بعد ان يمارسوا السلطة حيث امتحان الأفكار والأشخاص في مواجهة الضغوط والإغراءات. في واقع الحال لا يأتي الإسلاميون من سلك المشيخات او من صفوف رجال الدين، خاصة في البيئة السنية ولو تربوا على يد هذه المرجعيات. المسلمون السنة لم يغادروا مواقعهم المدنية ولم ينعزلوا عن مؤسسات الدولة. توافر لشريحة واسعة من كوادرهم التعليم الجامعي العالي وعرفوا عن قرب الثقافة الغربية. ينخرط الإسلاميون في مجال الاعمال الاقتصادية الكبرى والصغرى ولديهم جمهورهم في مختلف الأوساط الاجتماعية. هذه عناصر تساعد على الجدل في ما بينهم وبين التيارات السياسية والفكرية الاخرى. امتدادهم الواسع داخل الكيانات وخارجها يعطيهم الشعور بالرحابة والتنوع ويخفض منسوب العصبية. لا يمكن للإسلاميين وحدهم ان يكونوا عالمهم الخاص. لديهم شركاء في بلدانهم وفي محيطهم الإنساني، خاصة في عصر العولمة الراهن ما لا يسمح لهم بالجنوح نحو تفكير امبراطوري او بإنشاء مركزية تستجر معها النزعتين الفاشية والشوفينية. ما نعيبه اليوم على البرنامج الذي يعلنه الإسلاميون بأنه قاصر عن معالجة المسألتين الاجتماعية والقومية هو جزء من ليبرالية هذا الفكر المكتسبة، لأن بديل ذلك هو التضخم الاديولوجي والذهاب بنا إلى مشروع «الخلافة»، كما دعا أحد أركانهم من الأصوليين.
لا يستطيع الإسلاميون البناء على مشروع الأمة العربية أو الإسلامية. ليس من واجبنا او من مهماتنا استدراجهم إلى ذلك. يمكن ان يجيب الإسلاميون كما اجاب العروبيون ببرنامج مليء بالطموحات والأحلام ويحولونه إلى طوبى كبرى او اسطورة تتقدم على سائر الهموم والطموحات والقضايا وتصبح معطلاً لحل المشكلات الاجتماعية والإنسانية. المحك الفعلي للإسلاميين هو قدرتهم على النهوض بمهمة التنمية والتعايش الايجابي مع التعددية السياسية والفكرية، مع الحريات المدنية والديموقراطية.
لا يملك الإسلاميون ولا يملك غيرهم برامج فعلية لبناء منظومة إقليمية قوية موحدة في هويتها وثقافتها او غير موحدة. التحدي هو ان لا يتمذهب الإسلاميون (ان لا يتعصبوا) وأن يقبلوا فعلاً بعقد وطني واجتماعي ينظم علاقتهم بشركائهم على أساس المساواة في المواطنة، مع حق الاختلاف في الثقافات الفرعية الاثنية او المذهبية الدينية والمدنية. التحدي هو ان لا تتحول أي جماعة سياسية إلى عصب اساسي للسلطة وتدّعي الوكالة المطلقة عن المجتمع وتسعى إلى إلغاء تنوعه وتناقضاته تحت أي عنوان فكري او اديولوجي ديني او مدني. عندما يكون الإسلاميون خارج السلطة يمارسون اقصى ما لديهم من الإمكانات للتعبئة والتحشيد. حين يدخلون السلطة مطالبون بإجابات عملية وبحلول لجميع الناس بجميع مكوناتها وأطيافها. في المجتمعات التعددية هناك مهمة يضطلع بها الآخرون من غير الإسلاميين وهي تقديم المشتركات لا تغذية عناصر التنافر. ورثت المجتمعات العربية تاريخاً حافلاً من النزاعات الأهلية تحت مسميات وهويات مختلفة. ليست النزاعات الأهلية مسؤولية جهة واحدة، بل لا يمكن ان تكون إلا مسؤولية عامة. صراعات الغلبة والصراعات على السلطة والغنيمة صارت جزءاً من وعي وذاكرة الشعوب ولا يمكن تجاهلها. واحدة من إيجابيات الأوضاع العربية الراهنة انها كشفت الغطاء عن قضايا مغفلة او مؤجلة. فاقم الاستبداد العربي المشكلات وعمل على إبقائها خارج التداول.
في الثورات العربية يخرج إلى العلن كل شيء فيصدمنا إيجابياً وسلبياً، وأفضل ما يمكن عمله هو فهمها واقعياً من دون إسقاطات فكرية.
منذ زمن طويل فقدت «الأنظمة الشعبوية» العربية قدرتها على توسيع قاعدتها الاجتماعية بل حتى الاحتفاظ بها. هناك انشقاق كبير بين النخب السياسية والاقتصادية التي غالباً ما نشأت من امتيازات السلطة وبين الجمهور الذي لا توفر له السلطة فرصاً للعمل ولا تهتم لمستوى حياته الاجتماعية. لكن هذا لا يكفي لتفسير كل شيء. هناك الصراع على السلطة المادية وهناك «الصراع على المعاني والقيم والرموز ومحاولة امتلاكها واستثمارها». ولأن المنافسة مغلقة امام هذه الطموحات في أنظمة تحتكر السلطة وتفرض رموزها وقيمها تنفجر المعارضات الشعبية ضد السلطة وضد رموزها. تتخذ الطائفيات العربية هنا وهناك هذا المنحى أحياناً كتأكيد للذات بوجه سياسة الإقصاء والإلغاء. لا اهمية لهذه الظاهرة إذا صدرت عن أكثرية او أقلية لأن هذا التنفاس يحمل المعاني نفسها من الغبن او الخوف. هناك أكثريات عربية إسلامية تعرضت إلى كبت لثقافتها من أنظمة لم تكن علمانية او مدنية، بل استخدمت الوسائل الفاشية لتقديس النظام على حساب المجتمع.
تحمل الحركات الإسلامية ملامح الثقافة الشمولية لكنها ليست قادرة في المجتمع المفتوح المعاصر ومع هذه المصالح الاجتماعية المتنافرة ان تجدد أنظمة الاستبداد. تجربة تونس ومصر لم تستنفد المسار الديموقراطي ولم تحبط التعددية. حتى الآن لا يبدو في الأفق احتمال العودة إلى سياسة الإلغاء.
  

السابق
بلبلة في ترتيب أولويات المعالجة وملف أمن الجنوب مفتوح على أربعة احتمالات
التالي
رئيس بلدية البرغلية غالب الداوود كل الشكر للكتيبة الكورية على مساعداتها للبلدة