لبنان بلا سياسة خارجية

في عام 1974، نأى المندوب الصيني في مجلس الأمن الدولي بنفسه عن مشروع بيان رئاسي في المجلس. نسي العالم هذه البدعة، إلى أن حضر الملف السوري على طاولة الأمم المتحدة، فـ«نكش» لبنان هذه البدعة واعتمدها «سنّة» له. لكن النأي بالنفس يُظهر دولة لبنانية بسياسات خارجية كثيرة

هل يتفرّد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بالقرارات التي يتخذها لبنان في الجامعة العربية؟ أم أن وزير الخارجية يحدد سياسة لبنان من دون العودة إلى مجلس الوزراء؟ الجواب الأوّلي عن هذين السؤالين يؤكد أن للبنان سياستين خارجيتين. ظهر الأمر جلياً منذ بدء الاحداث في سوريا، وانتقال البحث في ملفها إلى مجلس الأمن الدولي والامم المتحدة، ثم الجامعة العربية. ومنذ ذلك الحين، ظهرت «بدعة» النأي بالنفس.

قبل حكومة ميقاتي، تعرضت حكومة الرئيس سعد الحريري لامتحان مماثل، عندما طرحت الدول الغربية مشروع قرار في مجلس الأمن لفرض عقوبات على إيران. حينذاك، عُرِض الأمر على مجلس الوزراء، فانقسم المجلس نصفين، تبعاً للانقسام السياسي الذي تعيشه البلاد، ما أدى إلى امتناع لبنان عن التصويت. أما الحكومة الحالية، فاتخذت منحى آخر. أولى بشائر النأي بالنفس بدأت في آب الماضي، عندما نأى لبنان بنفسه عن مشروع البيان الرئاسي الذي يدين استخدام العنف ضد المدنيين في سوريا. بعد ذلك، عُرِض على طاولة مجلس الامن الدولي مشروع قرار غربي لإدانة النظام السوري (سقط القرار بسبب الفيتو الروسي والصيني)، فامتنع لبنان عن التصويت، بعدما هدد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بالاستقالة، إذا أصرّ شركاؤه في الحكومة على المضي في مواجهة المشروع.لماذا نأى لبنان بنفسه في المرة الاولى، وامتنع عن التصويت في الحالة الثانية؟ ولماذا النأي بالنفس عن آخر قرارين اتخذتهما الجامعة العربية بشأن سوريا؟ وما مدى قانونية النأي بالنفس في هذا المجال؟
تقول مصادر قانونية مختصة بشؤون العلاقات الدولية إن النأي بالنفس لا يجوز إلا في الحالات التي يكون فيها القرار بحاجة إلى إجماع، كالبيانات الرئاسية التي يصدرها مجلس الامن الدولي. ولا يمنع النأي بالنفس صدور قرارات كهذه، فيما يؤدي الامتناع عن التصويت في الحالات المماثلة إلى تعطيل صدور البيانات الرئاسية. ولهذا السبب امتنع لبنان عن التصويت على مشروع قرار إدانة سوريا في تشرين الأول الماضي، ولم ينأ بنفسه، لأن مجلس الامن الدولي كان سيرفض موقف لبنان، وسيطلب من المندوب اللبناني اختيار واحد من الخيارات الثلاثة: التأييد أو الاعتراض أو الامتناع عن التصويت. والأمر ذاته ينسحب على موقف لبنان من مشروع إدانة سوريا في اللجنة الثالثة التابعة للجمعية العامة للامم المتحدة، الصادر قبل ثلاثة أسابيع، عندما امتنع مندوب لبنان الدائم لدى المنظمة الدولية، نواف سلام، عن التصويت، ولم ينأ بنفسه.

وبرأي المصادر القانونية ذاتها، فإن نأي لبنان بنفسه عن قرارات الجامعة العربية الأخيرة غير جائز، «وكان على رئيس الجلسة أن يرفض موقف لبنان، وان يطلب التصويت بواحد من الخيارات الثلاثة المعروفة: الامتناع او الرفض او التأييد». لكن وزير خارجية قطر، تضيف المصادر، «يعرف حساسية الوضع اللبناني، فقرر التغاضي عن موقف سفير لبنان لدى الجامعة العربية خالد زيادة، مكتفياً بالتهكّم». ومنبع عدم قانونية النأي بالنفس، برأي الخبراء القانونيين، هو كون قرارات مجلس الوزراء العرب الأخيرة ليست مما هو بحاجة إلى إجماع، بل إنها تصدر بالأكثرية، سواء منها الأكثرية البسيطة أو المطلقة.

لكن مشكلة موقف لبنان الأخير في الجامعة العربية ليست قانونية وحسب، بل تتعداها إلى الجانب السياسي. فقد كشف الأداء في القاهرة عدم وجود مرجعية موحدة للموقف اللبناني، فضلاً عن تناقض التعليمات التي يتلقاها السفير خالد زيادة. وأبرز دليل على ذلك ما جرى في جلسة مجلس وزراء الخارجية العرب يوم 24 تشرين الثاني. حينذاك، اعطى وزير الخارجية عدنان منصور تعليماته لزيادة، وتقضي بالتحفظ على مشروع قرار العقوبات الاقتصادية على سوريا والتصويت ضده. وما إن غادر منصور القاهرة متوجهاً إلى قبرص، حتى اتصل احد الدبلوماسيين اللبنانيين في القاهرة بالسرايا الحكومية، منبّهاً أحد مستشاري ميقاتي إلى ان تعليمات منصور تقضي بالتصويت ضد قرار العقوبات على سوريا. ولمّا أعلِم ميقاتي بما يجري، اتصل بزيادة وأبلغه تعليمات جديدة: النأي بالنفس. جرى ذلك من دون أي تنسيق مع وزير الخارجية. وفيما تؤكد مصادر ميقاتي ان كل قراراته تجري بالتنسيق مع رئيسي الجمهورية ومجلس النواب، تؤكد مصادر سياسية من قوى 8 آذار أن هذا القرار بالتحديد لم يكن منسّقاً مع الرئيس نبيه بري. والدليل على ذلك، تضيف المصادر، ان منصور كان سيصوّت باسم لبنان ضد القرار، لو أن موعد انعقاد الجلسة لم يؤجّل من الساعة الحادية عشرة صباحاً إلى ما بعد ظهر ذلك اليوم.

وترى مصادر سياسية أن اتخاذ ميقاتي قراره بالتنسيق مع رئيس الجمهورية «يتخطّى دور مؤسسة مجلس الوزراء التي لها وحدها حق تحديد سياسة لبنان الخارجية». تضيف المصادر: يعلم رئيسا الجمهورية والحكومة أن أي تصويت في مجلس الوزراء لن يكون لمصلحتهما، لأن أكثرية أعضاء المجلس ستطلب التصويت ضد أي قرار بفرض عقوبات على سوريا. وترى المصادر ان في هذا الأداء مشكلتين رئيسيتين: الأولى أنه يُلزم لبنان بقرار يصعب في الأعراف الدبلوماسية تخطّيه مستقبلاً، لأن هذه الأعراف تقضي بأن تكون وجهة التصويت في كل جلسة تحت سقف الموقف الذي سبقها. أما المشكلة الثانية، فمتصلة بالتراتبية الادرية في وزارة الخارجية التي يجري تخطّيها، من خلال قيام رئيسي الجمهورية والحكومة بإعطاء تعليمات إلى السفراء مباشرة، ومن دون المرور بوزير الخارجية. وهذا الأداء لم يقتصر على قرارات الجامعة العربية في الملف السوري، بل تعدّاها إلى الموقف من قرار الجمعية العامة للامم المتحدة بشأن «المؤامرة الإيرانية» المزعومة لاغتيال السفير السعودي في الولايات المتحدة.
في المقابل، تكتفي مصادر ميقاتي بتكرار الموقف الذي يلتزم به رئيس الحكومة منذ بدء معركة القرارات ضد سوريا في مجلس الأمن الدولي، أو في الجامعة العربية: مواقفي مبنية على تحييد لبنان في ظل العاصفة التي تضرب منطقتنا.  

السابق
احمد الاسعد: الوضع من حولنا يشهد تحولات تاريخية كبيرة لا بد أن ترسم صورة أكثر اشراقا للمنطقة من خلال ارساء الديموقراطية
التالي
حميد: لمصلحة من استهداف المؤسسة العسكرية؟