الشيعة والمسيحيون والدروز والسنّة وربيع بيروت

هل كانت طبخة تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان كافية ليدرك جميع الأطراف، من كلا المعسكرين المتحاربين، أنهم كلهم في مأزق؟ لا لزوم للتفصيل، ولا لعرض الحسابات المسبقة والخيبات المحصودة، ولا لتحليل الوجوه الواجمة أو تلك المكابرة أو حتى المحاوِلة تمويهاً رسمَ ابتسامات الربح أو الشماتة المغلوطين. الكل في أزمة تتعمق يوماً بعد يوم، لأن الكل في مأزق عنوانه أنْ لا أحد يربح في لبنان ولا أحد يخسر. هذا هو جوهر هذا الكيان الغريب العجيب. أن تكون كل ثوابته مشاكل، وكل مشاكله ثوابت، وأن يستمر فيها الى ما لا نهاية، بلا إبلال كامل ولا اعتلال كامل أيضاً.

وتأتي الأزمة السورية، بإرهاصات استدامتها طويلاً، وانتهائها الى شيء يشبه أكثر ما يشبه فلسفتنا اللبنانية التسووية لا غير، لتسعّر أزمات الجميع عندنا، ولتظهر أن الخطر الأكبر يكمن في ألا ندرك احتمال أن تمر أعوام طويلة على هذه الحال، وألا يحصد المراهنون المتقابلون إلا الاستنزاف المزمن في لقمة الخبز ونعمة الأمن، فننزلق تدريجياً الى هاوية أعمق، فيما نحن نستمر في الحفر…

هل يفكر أحد ما في حراك سياسي مختلف، قادر على أن يمثل خرقاً نوعياً في الجدار الجاثم القائم؟ في زمن الكلام اللامتناهي عن «الربيعات»، وعن أنها وليدة براعمنا اللبنانية، وفي واقع أن ما حولنا مجرد «خريف أنظمة» لا «ربيع شعوب»، وبين الاثنين شتاء قاسٍ قارس مضنٍ ممضّ طويل، على أبواب ذاك الشتاء، هل من مكان لدى قادتنا لحل على قاعدة تضافر أفضال «جماعاتنا» في ولادة ربيعنا اللبناني؟
ماذا لو فكروا جميعهم، أو تحديداً قادة «الجماعات» الأربع الأساسية المتمترسة على «ضفاف» نهر الربيع الموعود، ماذا لو فكروا في أن القصة بدأت فعلاً من ربيع بيروت، لكنّ ربيع بيروت لم يكن نتاج جماعة لبنانية واحدة، ولا بَدع طائفة واحدة، ولا خلق جهة واحدة ولا منطقة ولا منطق ولا نطاق دون آخر في لبنان.
هل يمكن مثلاً أن نبني في أذهاننا وسلوكنا هذا التراكم الرباعي في ولادة ربيعنا:
أن تعرف كل الجماعات اللبنانية وتعترف أولاً بفضل «الجماعة الشيعية»، في ولادة ربيع بيروت وإطلاقه وانطلاقه، نتيجة دور هذه الجماعة في دحر الاحتلال الإسرائيلي، وثمرة تضحياتها في ذلك الإنجاز اللبناني الخاص والفريد. من دون أن نسقط تضحيات كل من سبق على طريق بدايات المقاومة ضد اسرائيل، أو أن نغمط حق أيّ كان في تلك الدرب.
ثانياً أن تعرف الجماعات نفسها وتعترف ثانياً بفضل «الجماعة المسيحية» في ولادة الربيع نفسه، حين أجرت ربط نزاع مع نظام الوصاية السورية، طيلة عقد ونصف عقد. فقدمت التضحيات الكبيرة أيضاً، آلافاً مؤلفة من المعتقلين والمنفيين والمخفيين وضحايا الدروب الصامتة، بلا أنصاب ولا أعياد ولا ذكرى. فلولا ربط النزاع هذا، فيما كان وطن برمته، دولة ومؤسسات وأرضاً وديموغرافيا، يتكيف بنيوياً مع غياب مفهوم السيادة ويتأقلم مع ثقافة عنجر، ويفرز مسوخاً في السياسة والاقتصاد والإعلام، لا يزال معظمهم شغّالاً في ظل كل العهود، لولا ربط النزاع المسيحي ذاك، لما جاءت فرصة 2005، أو لو جاءت لما كان ثمة من تجده حياً أو يجدها فرصة…
وثالثاً أن تعرف الجماعات كلها وتعترف أيضاً وأيضاً، بفضل «الجماعة الدرزية»، في لحظة مفصلية ومصيرية، في أداء دور الجسر بين الجماعات اللبنانية المتحولة من الوصاية الى السيادة. وهو دور لم يكن بلا أثمان، وما كان ليكون بلا شجاعة خاصة في لحظة أن تكون حياة بكل تجلياتها ومعانيها أو لا تكون. ولولا ذلك الجسر الدرزي، لظل الجبل معزولاً، ولظلت طرابلس وصيدا، وخصوصاً بيروت، تعيش الحالة التي قال عنها ممثل رفيق الحريري في أول مشاركة خجولة لفريقه في لقاء البريستول: إن قواعدنا ترفض كل الخطاب السيادي الذي ترفعونه، ولا تقبل أو تحمل أو تحتمل مجرد الدعوة الى إعادة انتشار سوري، فكيف بانسحاب الجيش السوري من لبنان. هو الجسر الدرزي، كما نسيم الجبل الآتي منه، ما حمل لقاح الربيع السيادي الى شوارع المدن المسوَّرة، فأخصبها ووصلها بزمن الجبل المتبرعم…
ورابعاً أن تعرف تلك الجماعات وتعترف أخيراً، بفضل «الجماعة السنية» بإعلان ربيع بيروت، في لحظة مشابهة لربيع أدون، مخضبة بدم كبير، هو دم المغفور له رفيق الحريري. فالموضوعية تقتضي الاعتراف بأن هذا الدم كان طلق المخاض لذلك التراكم الربيعي السيادي الطويل، لكل ضحية ودم وعرق وعذاب ومعاناة، مثلت في فعل الحدث اللبناني رزمة شقائق أدون، تتفتح موسماً إثر موسم على ضفاف ربيع بيروت الهادر مع كل سقوط وانبعاث…
هل من حراك سياسي ممكن اليوم بهذه الخلفية، بحيث تُجمع فضائل الوطن وأفضال جماعاته، بدل طرحها وقسمتها ورميها في سواقي الرهانات الخارجية؟ إنه السؤال التحدي… قبل حصول الأسوأ.  

السابق
رعد: 14 آذار صعقوا لمخرج التمويل المحكمة يرعاها الشيطان ولن تصل الى العدالة
التالي
“BSP”.. شوارع المدن ملك عدساتهم