غبطة البطريرك.. المسألة أكبر من ذلك

منذ شهرين، أقود سيارتي بأبواب مقفلة وعينين مفتوحتين على وسعهما. أسلك الطريق الرئيسي وأتجنّب الطرق الفرعية والأزقّة المظلمة. أنتبه إلى سيارة تركها أصحابها مفتوحة، فأتوجه إليها لأقفلها من الداخل، والفكرة الأولى التي تمرّ في خاطري: ربما تكون مفخّخة. أحرص على إيصال جميع صديقاتي إلى منازلهن، كي لا يضطررن إلى السير وحدهن ليلاً. أخاف عليهن من سيارات الأجرة، وتمرّ في ذهني خلال النهار أخبار بشعة أطردها سريعاً منه.

يرنّ هاتفي، يجتاحني الخوف من خبر سيئ. منذ أسبوعين، تعرّضت صديقتي لمحاولة اختطاف. وقبل ذلك بيومين، نشل أحد الشبان محفظة "رنا"، وفرّ معتلياً دراجته النارية. أما منذ ثلاثة أيام فقد تعرّضت جارتي لمحاولة اغتصاب نجت منها بمساعدة سكين صغير تخبئه في حقيبتها. واليوم، عرفت أن امرأة أعرفها تعرضت لمحاولة اغتصاب فاشلة منذ أيام في فرن الشباك، فأشبعها مهاجموها ضرباً حتى باتت عاجزة عن المشي. ومنذ أسبوع، حاول رجلٌ اغتصاب "مريم الأشقر"، ثم قتلها.
أشعر بحاجة لأن يطمئنني أحد، لأن تنظر "مايا" و"سجى" و"لوزان" و"زينب" و"ديانا" و"رندا" و"سحر" و"نسرين" و"فرح" في عينيّ، ويقلن لي إننا سنتخطى هذا، وإننا أقوى من هذا الضعف. أحتاج إلى أن أطمئنهن. "لين" قالت لي ذلك اليوم، إنها سلكت طريقاً أطول في شارع الحمرا نحو منزلها، ولم تستمع إلى الموسيقى كما تفعل عادةً، وظلّت مشدودة الأعصاب، حتى وصلت سالمة، ولم تكن الساعة قد تجاوزت الثامنة مساء.
نلجأ إلى الموسيقى في أثناء سيرنا في الشارع، لنصمّ آذاننا عن الكلمات النابية التي توجّه إلينا، فنترك ظهورنا مكشوفة لحملة السكاكين وصائدي فرص الاغتصاب. نضطر إلى التخلي عن الموسيقى وتحمل التحرّش، كي نبقى يقظات لأي محاولة اعتداء. نغضب ونثور، نحاول أن نحصّل قليلاً من حقوقنا، فنغدو "بنات شارع" أو "مسترجلات" أو "مدمّرات للأسرة" أو "محتقرات للمقدسات". يتقاتلون على السلاح والمحكمة ومن يفضح فساد من قبل من، ويدهسوننا على درب القتال. تذهب كل الزوجات المغتصبات ضحايا للصفقة الوسخة ما بين رجال الدين والسياسة لفضّ مشروع قانون حماية المرأة من العنف الأسري.
لماذا يستخفون بنا؟ لماذا تزلزل الأرض والشاشات والأقلام عندما يرد اسم غبطته أو سماحته أو معاليه، ولا يحرّك أحد ساكناً فيما تهان المرأة كل يوم في الأغنيات والإعلانات ومخافر الدرك والمحاكم الشرعية والروحية؟ لماذا يستسهل عامل الـ"فاليه باركينغ" أن يهددني بكسر زجاج سيارتي لأنني "تجرأت" على السير في طريقي، بينما يصرّ هو على التحدث إليّ؟ كأنّ كل ما حولي من قوانين وتقاليد وقواعد لا تكفي لتجعل من حياتي تحدّيا يوميا في هذا البلد. كأننا ولِدنا ومقدّر لنا أن نكون مكافحات مثقلات دائما بضعفنا وقوتنا في آن معاً.
أقرأ وزير الداخلية يدعوني لإبلاغ القوى الأمنية عن أي خطأ ألاحظه. لكن هل يعرف معاليه أن أمنه هو من يتحرش بي، ومن يرفض الاستماع إليّ عندما أذهب لأشتكي أو عندما تذهب امرأة أخرى لتشكو عيناً متورّمة من كفّ زوجها؟ "مسألة عائلية" يقولون، أو "بدّك نفتح محضر لأن قلّك يقبرني هالـ(…)؟". ثم يصرّح غبطة البطريرك بشارة الراعي طالباً من الرعايا والكنائس عدم إيواء الأجانب من غير المسيحيين. كأن العنف الذي نعيشه كل يوم كنساء يقتصر على حمَلة جوازات السفر الخالية من الأرزة. كأن القانون وقوى الأمن ورجال السياسة والدين والنظام الاجتماعي والأسري والطبقي والإقطاعي والجامعات والنظام التعليمي وأماكن العمل والبلديات، براء من هذه الجرائم.

أشعر برغبة عارمة في الضحك كلما مررت من أمام ثكنة حبيش، أو تجاوزتني إحدى سيارات الشرطة المطلية حديثاً مسرعةً نحو جهة مجهولة، أو شاهدت "تدريباً قتالياً" لعناصر الدرك على التلفزيون. يستفزني بقسوة وجود "شرطة الآداب" لتحجر على حياة الناس الشخصية التي يختارونها بإرادتهم، بينما تُغتصَب آلاف النساء في أسرّة أزواجهنّ. أثور بشدّة كلما حضرت العرض العسكري في عيد الاستقلال، وأفواج المجوقل والمغاوير بذلك الصباغ الغريب (غير الأرجواني) فوق وجوههم. أكاد أجنّ كلما أرسل لي عنصر مجنّد ابتسامة مجانية من خلف بندقيته، وهو يجلس بين رزمة مكدّسة من العسكر في جيب عسكري يحدث أن أعلق خلفه في الزحمة. بي رغبة حقيقية لأن أسألهم: أتمزحون؟ أتجنّدون كل هؤلاء، وتنفقون على عتادهم وتدريبهم ورواتبهم، ليضبطوا صبية وشاباً يقبلان بعضهما في سيارة عتيقة على عين المريسة، أو رجلاً ثملاً على شط الرملة البيضاء، أو ليقدموا عروضاً زاحفة وطيارة؟ حقّاً، أتمزحون؟
إذا أردنا أن نغضب، علينا أن نغضب تجاه قانون الاغتصاب الذي لا يكترث إلا لـ"لملمة الفضيحة" بتزويج الضحية إلى مغتصِبها. علينا أن نغضب تجاه ثقافة الاستهلاك الفوري لأجسادنا، التي تخرس قصصنا الحزينة حرصاً على "الشرف الرفيع" من الأذى. وإذا أردنا أن نثور، علينا أن نثور على "كانت ترتدي تنورة قصيرة"، و"كانت تعود في وقت متأخر من الليل"، و"غمزته، فظنّ أنها ترغب بذلك أيضاً".
إذا أردنا العدالة، علينا أن نتصدّى لخطاب وشاشات وأقلام تسخّر القصص المأساوية والقاسية في سبيل التحريض العنصري ضد العمال الأجانب، على حساب تمييع الحلول المفيدة، المطلوبة عاجلاً وسريعاً. ليس الحلّ بالتحريض على السوريين والأجانب ولا بنفي وقوع الاغتصاب ولا بشنق المغتصبين وسحلهم، بل بمواجهة حقيقة هذا النظام والقيّمين عليه، الحريصين على بقائه كما هو، بكل عفنه الذكوري المحتفى به كصورة من صور "الرجولة".

إذا أردنا أن نثأر، علينا أن نثأر من أجهزة أوكل أمننا إليها فأخذت تتحرش بنا، ومن بلديات ننتخبها فلا تضيء شوارعنا ولا تحفظ حقنا بالسير فيها بأمان.
تقول صديقتي "نادين معوض" إن التغيير يحدث أمامنا. تقول إنها توقّعت ردوداً قاسية على مقالها عن جريمة قتل "مريم الأشقر"، لكن الردود جاءت ايجابية ومؤيدة. فقد قالت نادين في مدونتها الخاصة: "مريم الأشقر ليست "فتاة مسيحية" اعتدى عليها "سوري" وقتلها. "مريم الأشقر" فتاة عشرينية، خرجت في نزهة قصيرة، فاغتصبها رجل وقتلها".
أودّ أن أؤمن مثلها بأن التغيير يحدث.
لا أريد لأحد أن يستبيحني. لا أريد لأمي أن تتعرض للسرقة. لا أريد لزميلتي أن تخضع لقبلة إجبارية من غريب في طريقها إلى العمل. لا أريد لجارتي أن تحتمل صراخ زوجها طوال الوقت. لا أريد لـ"لين" أن تطفئ الموسيقى في طريقها إلى المنزل خوفا وذعرا. لا أريد أن أنكسر.
وأودّ أن أؤمن مثلها بأن التغيير يحدث.  

السابق
نحاس: لاعطاء الاولوية لمسألة تصحيح الأجور
التالي
التحفيز الكهربائي محاربة الزهايمر