وداع بعثي للعروبة!

لفترة غير قصيرة، اعتبر العقل البعثي العروبة مفهوما يحمل معنى وحيدا هو بالتحديد والحصر ذاك الذي أعطاه لها ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث، الذي عمل خمسين عاما في السياسة لم يكتب خلالها أكثر من ألف صفحة ليس بينها أي بحث نظري أو عملي عن مرتكز رؤيته الرئيسي: العروبة والأمة.

بعد انقلاب الثامن من مارس (آذار) عام 1963 بقليل، حكم قادة الحزب بالإعدام على مؤسسه، وربطت السلطة الجديدة العروبة بسياساتها السلطوية غير الحزبية، خصوصا بعد عام 1970، وتخلق نظام استبدادي من طراز شمولي تبنى تعريفا واحدا لها يقتصر على خدمته وتعزيز طابعه الشمولي/ القمعي. لا عجب أن ترتبت على ذلك نتائج وضعت العروبة والفكرة الوحدوية النابعة منها في مواجهة الديمقراطية وما ارتكزت عليه في تاريخ العالم الحديث من مواطنة وحرية ومدنية وحقوق إنسان، الأمر الذي سلب العروبة قدراتها التغييرية والإنسانية، وحولها عن وظيفتها الموعودة، وحال بينها وبين تحقيق قيم الحرية والعدالة في سوريا، ووضع السلطة في مواجهة حثيثة وشرسة مع حملتها، الذين فقدوا أهليتهم كمواطنين وانقلبوا إلى خونة وأعداء للأمة، بينما قوضت السلطة ما ترتب على وجود الجماعة السورية من تكوينات وتشكيلات مجتمعية، وطنية كانت أم أموية (نسبة إلى أمة)، وأحلت محلها تشكيلات ما قبل مجتمعية/ ما قبل وطنية، كانت العروبة آيديولوجيتها الوظيفية، لذلك حملت دوما طابعا فئويا مجافيا لما كان يفترض أنه طابعها الحقيقي: المفتوح، الذي كان يعد بتجاوز هذه التشكيلات، التي عبرت عن نفسها من خلال النظام الأمني وأجهزته السرية، بعد أن سادت ومادت ونجحت في قلب العروبة سلاحا آيديولوجيا، نفر أغلبية الشعب من الفكرة العربية وما فيها من نزوع وحدوي، وقد كان إلى الأمس القريب يحظى بتأييد واسع، لكن عروبة البعث نجحت في نزع وتقليص تأييد قطاعات واسعة من المواطنين له خلال السنوات الخمسين الماضية من حكمه.

 وككل آيديولوجيا فاشلة، غدت العروبة وظيفية، إن خدمت النظام وساعدته على قمع الشعب معنويا وروحيا، كانت خيرا وبركة، وإلا أنزل «شعبه» إلى الشارع لإدانتها وصب اللعنات عليها وعلى العرب، أفرادا وشعوبا وأمة، فالعروبة السلطوية المعادية لمواطني سوريا، لم تكن تستطيع أن تحب إخوتهم من المواطنين العرب، ولعله لا داعي للتذكير بما ألصقته بهؤلاء من عيوب خلال سنوات كثيرة ماضية، وما ألحقته بهم من أضرار فادحة في لبنان وفلسطين والعراق والأردن وليبيا والخليج، وقبل هذا وذاك في سوريا ذاتها، حيث نشأ وترسخ، رغم النظام، الوعي بدور البعث المعادي للعروبة، وكرهه المواطن العادي بسبب ما حمله من عداء لهوية الحركة القومية كحركة أسست ودعمت في أوروبا الحديثة الحرية وحقوق الإنسان والوحدة الأموية.
كشف النظام خلال الأيام الأخيرة عن حقيقة فهمه للعروبة وموقفه من العرب، حين أنزل آلاف الأتباع إلى الشوارع كي يشتموا أمتهم وينزعوا عنها أي ملمح حديث أو إنساني، ويرددوا ما يقوله أعداؤها الصهاينة عنها، وينسبوا جميع المنتمين إليها من حضريين وريفيين إلى البداوة والتخلف والصحراء والرمل، ويعلنوا خروج النظام السوري من العروبة – كأنه كان فيها سابقا – وتبنيه أفكارا واتجاهات كان يشتمها البارحة وينظر بغضب إلى حملتها باعتبارها قطرية ذميمة واستشراقية ساقطة. واليوم، يرد النظام الاعتبار لفكرة سخيفة كثيرا ما لاحق واضطهد أتباعها، تقول بتفرد السوريين الحضاري وتفوقهم على العرب، الذين تحولوا من أمة كان البعث يفاخر بأهليتها التاريخية والحضارية إلى بدو يعيشون على الغدر واللؤم والخيانة، يريدون الانتقام من سوريا – وليس من النظام! – وردها إلى حيث يوجدون هم: في عالم التخلف والعداء للحضارة والتقدم، والكذب والفساد!

أنتج النظام السوري انطلاقا من آيديولوجية سماها في ما بعد قومية/ اشتراكية، كانت خليطا من رؤية ما قبل أموية للعرب واشتراكية ما قبل مدنية فرضتها على واقع كانت قد زعمت خلال وقت طويل أنها لا تناسبه. بعد انهيار السوفيات واشتراكيتهم، وقف النظام على ساق آيديولوجية واحدة هي قوميته المعادية للحرية والإنسان، وها هو يفصح اليوم عن حقيقتها كعروبة ضد قومية، يوجهها ضد العرب لأنهم لم يؤيدوا قيامه بسحق جزء رئيسي منهم هو شعب سوريا، بعد أن أجبرتهم وحشية القمع على الامتناع عن تأييده وبعثت الخوف في نفوسهم، فطالبوه بوقف حربه ضد شعبه، كي لا يجدوا أنفسهم مجبرين على معاقبته.

وكان غياب مؤسس النظام، الرئيس الراحل حافظ الأسد، قد آذن بغروب شمس آيديولوجية البعث، وتلاشي قدراتها التعبوية والتضليلية بانقلاب «الوحدة والحرية والاشتراكية» إلى نقيضها، وتحقيقها عكس ما كانت قد تعهدت بتحقيقه طوال قرابة ثلث قرن، مما حول وعد الوحدة إلى سلطوية عمياء تعيش على العنف، والحرية إلى قمع مطلق لا يوفر بشرا أو حجرا، والاشتراكية إلى نهب مفتوح جرد قطاعات شعبية واسعة من ملكيتها وسلب الإنسان حقه في أن يعيش من قوة عمله.
بدل أن يسعى نظام بشار الأسد إلى إجراء إصلاح شامل ينتج من خلاله بعض الشرعية لنظامه ويتخطى حقبة التحول التي أعقبت وفاة والده، لجأ إلى وسائل زادت من إفلاس النظام الآيديولوجي وانكشاف عجزه، هي: استخدام الكذب على أوسع نطاق من أجل الالتفاف على مطلب الإصلاح، الذي كان قد غدا شعبيا وملحا، ووضع مصير البلد بين أيدي أجهزة الأمن، التي انفردت تماما بحكم سوريا بعد المؤتمر القطري الخامس عام 2005، وانتهاج سياسة إفقار استهدفت إرهاق المجتمع وتفتيته. يفسر هذا حجم غضب الشعب السوري على رئيس نظامه وإصراره على المطالبة برحيله، وانغماس المواطن البسيط في أنشطة يومية توجهها معادلة بسيطة: التحرر من النظام القائم أو الموت. والغريب أن النظام كان قد خطط منذ وقت طويل لضمان وجوده من خلال جعل هلاك الشعب مسألة وقت، بعد أن فقد قدرته على الفعل المفيد وانقلب إلى نظام يرسي شرعيته على قدراته الردعية، التي لا بد أن تتمكن من كبت الشعب ومنعه حتى من مجرد التفكير بنفض نيره عن كاهله، وإرغامه على الركون إلى سلبية فيها موته السياسي والفيزيائي: هدف كل ما فعله النظام قبل الانتفاضة الشعبية بوسائل السياسة، وبعدها بأدوات الحرب.

تخلى النظام عن العروبة كي يتبنى مفهوما لا يرقى إلى أي صعيد مفاهيمي. لذلك، كانت مظاهرات أتباعه تعبيرا عن الانحطاط الذي بلغه، ونجح في نقله إليهم، وتجسد في خطاب لم يتضمن أي شيء آخر غير المفاخرة بشتائم كتلك التي يتقنها المنتمون إلى العالم السفلي، الذين ينخرط قسم كبير منهم في منظمات شبيحة تدافع عن النظام بعنف قاتل لا يحتاج إلى أي غطاء آيديولوجي أو تجميلي: وبالمنطق الأخير الذي انتهى إليه: بقاؤه في السلطة أو إبادة الشعب!
ليست هذه النتيجة مباغتة، ألم يبدأ النظام عروبته بإقصاء الأكراد عن الحياة العامة، ثم بإخراج قطاعات متزايدة من السوريين منها، وصولا إلى إرسائها على قاعدة ما قبل مجتمعية/ ما قبل وطنية، تمييزية وجزئية، لم تبق فيه مكانا لغير مزق سلطوية استأثرت بكل شيء، ووضعت يدها على المعرفة ووسائل الاتصال والإعلام والخدمات العامة، بعد أن حشرت الشعب في منظمات فئوية تجعل مراقبته لحظية والتحكم فيه آنيا، وتصيبه بشلل دائم يمنعه من المطالبة بأي تغيير؟
أليس وضع سوريا الراهن نتاج هذه السيرورة، التي جعلت حياة النظام من موت الشعب، وحياة الشعب رهنا بالخلاص من النظام؟!
 

السابق
ماذا قال نصر الله لكوادره عن سورية؟
التالي
افتتاح القنصلية الفلسطينية في اقليم كردستان العراق