حرب الأضرحة

شهدت ليبيا في الآونة الأخيرة سلسلة منظّمة من التفجيرات استهدفت الكثير من أضرحة الأولياء في مناطق عدة من البلاد، وعرفت مصر حركة مشابهة في محافظات مختلفة مما أثار احتجاج الكثيرين، في مقدمهم شيخ الأزهر ومفتي الجمهورية. تشكّل هذه الأحداث "عودة" إلى نزعة ظهرت في جزيرة العرب في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، وتمثّلت في هدم غالبية القباب التي ترتفع فوق القبور والمشاهد، كونها "من البدع والمحرّمات المخالفة للكتاب والسنّة".

بعد نحو أسبوعين من مقتل العقيد معمر القذافي، اتهمت صحيفة جزائرية مجموعات تنتمي إلى التيار ‘الجهادي’ بتدنيس مقبرة لقبيلة القذاذفة في مدينة سرت وهدمها، ثم نبشها واستخراج الرفات منها وحرقها. رافقت هذا الخبر مجموعة صور فوتوغرافية، منها صورة يظهر فيها رجلان يقفان على طرف أحد القبور المفرّغة، فيما كُتبت على حائط الموقع عبارة "لجنة هدم الأصنام". تعدّت هذه الحركة كما يبدو "الأصنام" السياسية، وأخذت طابعاً دينياً خالصاً مع تعرض عدد كبير من أضرحة الأولياء للتفجير والهدم في مواقع عدة من الجبل الأخضر، منها قبة السيد عبد الواحد غرب مدينة مسة، وقبة السيد عبد الوالي المحجوبي في منطقة الوسيطة، وقبة السيد يوسف في منطق الحمامة، وقبة السيد عبد الله في زاوية العرقوب، وقبر السيد المسطاري في مدينة درنة.
امتدت هذه السلسلة إلى مناطق ليبية أخرى، وبلغت مدينتي زليتن ومصراتة المطلتين على البحر المتوسط، كما وصلت إلى مواقع خاصة بالجماعات الصوفية، أبرزها زاوية السيدة فاطمة الزهراء العيساوية في درنة، والزاوية الدسوقية في بنغازي. تناقلت وسائل الإعلام صوراً لبعض الأضرحة المهدّمة، منها مقام سيدي عبد الجليل في بلدة جنزور، وضريح سيدي عبد السلام الغريب في منطقة البياضة الواقعة في الجبل الأخضر، ومنارة السيد عبد الله المصري في طرابلس. تنقل هذه الصور معالم انتشار هذه الحملة بشكل لا لبس فيه. أثارت هذه الوقائع استنكار العديد من الليبيين، وشهدت بنغازي تظاهرة تندد بتفجير الأضرحة القديمة في شرق البلاد وغربها وجنوبها، ورفع المشاركون في هذه المسيرة شعارات تقول: "لا لنبش قبور الموتى وحرق أجسادهم"، "عقيدتنا عقيدة أهل السنّة"، "نعم للتنوع والاختلاف، لا للشقاق والخلاف"، "لا للفتاوى والتصريحات التي تحدث الشقاق".

تشويه وغلوّ

كما في ليبيا، تصاعدت حركة تدمير القباب والأضرحة في مصر حيث بدت أشبه بحملة منظمة شملت محافظات القليوبية والإسكندرية وكفر الشيخ والغربية والشرقية. في مدينة قليوب، استيقظ بعض الأهالي على أصوات رجال حملوا الفؤوس وشرعوا في هدم أضرحة سيدي رضاض، وسيدي عبد العال، وسيدي الغريب، وسيدي جمال الدين، وسيدي عبد الرحمن، بدعوى أن التبرك بها يُعدّ كفراً بالله. وفقا للأخبار المتناقلة، تمّ تدمير ثلاثة أضرحة، ونجا ضريح سيدي عبد الرحمن، وهو أقدم أضرحة قليوب وأشهرها. تقدّمت مديرية الأوقاف ببلاغ الى أجهزة الأمن والقوات المسلحة أكّدت فيه أن بعض الأضرحة التي تم الاعتداء عليها مسجّل في الأوقاف، وفي مقدمها أضرحة سيدي عبد الرحمن، وسيدي رضاض، وسيدي العوام. من ناحية أخرى، استنكرت رابطة المحامين في قليوب ما حدث وأكدت أنه يتنافى وحرية الرأي، وطالبت شيخ الأزهر وكبار علماء المسلمين بالتدخل، وإصدار بيان في هذا الشأن. في المقابل، أعرب مجمع البحوث الإسلامية التابع لمشيخة الأزهر عن رفضه لما حدث، واستنكاره البالغ لحوادث الاعتداء على بعض الأضرحة، و"محاولة البعض الاستيلاء على بعض المساجد والمنابر وادعائهم أنهم مخوّلون إقامة الحدود". ورأى أن هذه الاعتداءات "محرّمة شرعاً ومجرمة عرفا ًوقانوناً"، ودعا مسؤولي الدولة إلى "التصدي لهؤلاء المعتدين وعدم تمكينهم من تحقيق أهدافهم".
قيل إن السلفيين يقفون وراء هذه الحملة المنظمة لهدم أضرحة أولياء الله الصالحين، وقيل إنهم ينوون هدم مسجدي الحسين والسيدة نفيسة في القاهرة، باعتبارهما "شركاً بالله، وأن المصلين في مثل هذه المساجد يقعون في الشرك". سارع السلفيون إلى التبرّؤ من هذه التهم، وألقوا المسؤولية على من وصفوهم بـ"فلول الحزب الوطني والتيارات العلمانية"، غير أنّهم أصرّوا على دعوتهم إلى هدم الأضرحة الدينية المقامة داخل المساجد أو من دون مساجد، لكون الإسلام يحرّم زيارة القبور، أو التبرّك بها، أو الصلاة في المساجد المقامة بها. وتكرّر في هذا الشأن حديث ورد في "صحيح مسلم" يقول إن الرسول بعث علي بن أبي طالب، وأمرَه بـ"أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سوّاه، ولا تمثالاً إلا طمسه". اعتبر القيادي في "جماعة أنصار السنّة المحمدية" الشيخ سعيد محمود أن "بناء الأضرحة، أو زيارتها، أو التبرّك بها، أو الصلاة في المساجد المقام بها، من مظاهر الشرك والجاهلية"، وأكّد "إن موقف السلفية من ذلك الأمر ثابت منذ مئات السنين". كذلك رأى زعيم السلفيين في محافظة البحيرة الشيخ محمود عامر أن "الصلاة لا تجوز على الإطلاق بمساجد تضم أضرحة، ويجب أن تُهدم، وتُعتبر الأفعال التي يأتي بها الصوفية أثناء إقامة موالد من يعتبرونهم أولياء الله الصالحين من موجبات الكفر". في الجانب المعاكس، وصف شيخ الأزهر أحمد الطيب "السلفيين الجدد" بأنهم "خوارج العصر الحديث"، واعتبر أن "من يحرّمون الصلاة فى المساجد التي يوجد بها أضرحة هم أصحاب فكر فاسد". من جهته، هاجم مفتي الديار المصرية الشيخ علي جمعة "الذين يدعون إلى هدم قبور أهل البيت الموحِّدين وأولياء الله الصالحين وقبور العلماء المتّقين"، ووصف هذه الدعوات بأنها "عمى قلب وسوء فهم وتشويه للإسلام ودعوة إلى الغلو".

في بقيع الغرقد

لا نجد في تاريخ ليبيا ومصر ما يذكّر بهذه الحملة الغريبة على الأضرحة والقباب، غير أننا نقع على نزعة مشابهة في جزيرة العرب، وذلك مع صعود الدعوة الوهابية خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر. في عهد ما يُعرف بالدولة السعودية الأولى، تمّ هدم العديد من القباب في محيط الكعبة، كما تمّ تدمير أضرحة مقبرة بقيع الغرقد، وهي المقبرة الرئيسية لأهل المدينة، وتضمّ رفات ذرية الرسول وآله وأهل بيته وعدد كبير من أصحابه وزوجاته، إضافة إلى العديد من المهاجرين والأنصار والصحابة ومشاهير الإسلام. جاء في حديث من "صحيح مسلم" أن الرسول كان "يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد". وقال حسان بن ثابت في وفاة الرسول: "وجهي يقيك الترب لهفي ليتني/ غُيبت قبلك في بقيع الغرقد". في نهاية الخلافة العباسية، قدّم ابن جبير وصفاً لهذه المقبرة ذكر فيه طائفة من أسماء كبار الراقدين تحت ثراها. وفي عهد المماليك، مرّ ابن بطوطة بها ووصف بعضاً من مشاهدها وقببها. نقع على منمنمات عدة تصوّر هذه الروضة في غالبية المخطوطات الخاصة بوصف الحرمين، وتقابل هذه المنمنمات صور فوتوغرافية تمثل المقبرة بقبابها البيضاء في حالتها الأولى.
في "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، يشير عبد الرحمن الجبرتي إلى حملة تدمير الأضرحة في الجزيرة، ويؤكد "أن عبد العزيز بن مسعود الوهابي دخل إلى مكة من غير حرب، وولّى الشريف عبد المعين أميراً على مكة"، "وأنّه هدم قبة زمزم والقباب التي حول الكعبة والأبنية التي أعلى من الكعبة، وذلك بعد أن عقد مجلساً بالحرم وباحثهم على ما الناس عليهم من البدع والمحرمات المخالفة للكتاب والسنّة". في موقع آخر من كتابه، يخبرنا المؤرخ المصري أنّ "الوهابيين استولوا على المدينة المنوّرة بعد حصارها نحو سنة ونصف سنة من غير حرب"، "ولم يحدثوا بها حدثاً غير منع المنكرات وشرب التنباك في الأسواق وهدم القباب، ما عدا قبة الرسول". تتقاطع هذه الشهادة مع رواية ابن بشر النجدي الحنبلي، صاحب "المجد في تاريخ نجد"، وفيه يخبرنا أنّ أهل المدينة المنوّرة بايعوا سعود "على دين الله ورسوله السمع والطاعة"، ثمّ هدموا "جميع القباب التي وُضعت على القبور والمشاهد".
لم تصمد الدولة السعودية الأولى طويلاً، إذ نجح والي مصر محمد علي بالقضاء عليها، فبسط العثمانيون سلطتهم على الجزيرة من جديد، وأعادوا بناء القبب. بحسب رواية ابن بشر، أعاد إبرهيم باشا بن محمد علي باشا بناء مقبرة البقيع، ودوّن اسمه واسم والده واسم السلطان محمود في دائرة القبة الشريفة لحضرة الرسول. بعد زهاء ثمانية عقود، استعاد بنو سعود السلطة، وتمّ هدم أضرحة البقيع وتسويتها بالأرض، وذلك بعدما استفتى قاضي القضاة في نجد سليمان بن بليهد علماء المدينة، وسألهم: "ما قول علماء المدينة المنوّرة، زادهم اللّه فهماً وعلماً، في البناء على القبور، واتخاذها مساجد، هل هو جائز أم لا؟ وإذا كان غير جائز بل ممنوع منهي عنه نهياً شديداً، فهل يجب هدمها، ومنع الصلاة عندها أم لا؟". تردّد صدى هذه الأحداث في أنحاء العالم الإسلامي، واستنكر الكثيرون هذه الحملة الهدامة التي تستهدف أضرحة مضى على تشييدها مئات السنين، وحذّروا من المساس بقبر الرسول. وبرزت الصحافة المصرية في إدانتها القاطعة لها من دون مواربة أو تمويه. في منتصف العشرينات، مرّ بالجزيرة آخر "الحجّاج" الأوروبيين إلدون راتر، وتوقّف في بقيع الغرقد، وذكر في مدوّنته اختفاء القباب البيضاء التي تميّز أضرحة آل البيت، وقال إن قبوراً أخرى سُحقت ودُمّرت.

السؤال الواحد

تعود حرب القباب اليوم، وتبلغ للمرة الأولى مصر وليبيا. في القاهرة، تظاهرت جماعات الصوفية احتجاجاً على هدم السلفيين أكثر من مئة ضريح لأولياء الله في محافظات عدة من البلاد، ودعت الى التصدي بكل حسم لهذه الحركة، مؤكدة أن الإسلام أحلّ زيارة القبور لأخذ العبرة والموعظة، كما أحلّ التبرّك بزيارة أضرحة آل البيت والأولياء الصالحين. في بنغازي، خرجت تظاهرة تندد بتفجير الأضرحة، وتدعو الى التنوع والاختلاف، ونبذ الشقاق والخلاف. في زمن التحولات المتسارعة، هنا وهناك، يبدو السجال الفقهي أكبر بكثير من الحديث عن شرعية هذه الأضرحة أو حرمانيتها، ويتكرّر السؤال نفسه: أي إسلام؟ لأي ثورة؟ 

السابق
خريس: الهدف من الضغوط على لبنان ليس تمويل المحكمة بل اسقاط ميقاتي
التالي
بري: جزء كبير من احداث سوريا هدفة صرف الانتباه عن الاتسحاب الاميركي من العراق