عقبات إعادة هيكلة الديون السيادية اليونانية

مع تصاعد حدة أزمة الديون اليونانية، ازدادت الدعوات لإعادة هيكلة الديون العامة لليونان تبعا لذلك. ودافع البعض عن إعادة هيكلة الديون من أجل تخفيف عبء الدين اليوناني، وضمان استدامة موارده المالية العامة وتحسين آفاق نمو الاقتصاد على المدى الطويل. بالإضافة إلى ذلك، قيل إن هيكلة الديون التي أدت إلى خسائر لحاملي السندات، من المؤسسات المالية بالأساس، من شأنها أن تقلل من المخاطر المعنوية التي نشأت عندما تلقت البلدان التي انتهجت سياسات مالية غير مسؤولة سابقا الدعم المالي الرسمي.
مثل هذه الحجج صحيحة، ولكنها غير مكتملة، فهي لا تأخذ في الاعتبار التكاليف الباهظة والمخاطر المرتبطة بعملية إعادة الهيكلة. ويكشف لنا تحليل أكثر شمولا أن صافي المكاسب المالية المتوقعة من إعادة هيكلة الديون، من حيث خفض حجم الدين العام اليوناني وتكلفة خدمته، سيكون أقل بكثير مما كان يعتقد في كثير من الأحيان، في الوقت الذي يتوقع أن تكون فيه الآثار السلبية والمخاطر المحتملة – بالنسبة لليونان ولمنطقة اليورو ككل – كبيرة، وذات تداعيات أبعد مدى وأكثر عمقا على الاستقرار المالي والأداء الاقتصادي.
يعتمد صافي الفوائد المالية من إعادة هيكلة الديون السيادية من قبل أي دولة في منطقة اليورو التي تؤدي إلى تكبد حاملي السندات خسائر بالأساس على عاملين؛ الأول هو توزيع الديون على الدائنين ومدى قدرتهم على تحمل هذه الخسائر دون الحاجة إلى دعم الحكومة. والعامل الثاني هو القيود المفروضة على التمويل والعلاقات المالية المتشابكة الناجمة عن وحدة النقد الأوروبية والترابط بين الأسواق المالية.

وتشير هيكلة حاملي السندات للديون اليونانية ضمنا إلى أن صافي الفوائد الناتجة عن إعادة الهيكلة أقل كثيرا من المقترح حاليا أو المتوقع غدا. في نهاية يوليو (تموز) 2011، كانت القيمة الاسمية لديون الحكومة اليونانية 366 مليار يورو. ويمتلك اليونانيون وأكثرهم من المصارف وشركات التأمين والمعاشات نحو 104 مليارات يورو من الديون، أي نحو 30 في المائة من إجمالي الدين، ويتخذ أكثر من ثلث الدين شكل السندات والأوراق المالية قصيرة الأجل. في هذه اللحظة، من الضروري أن يحول الدعم المالي الحكومي دون حدوث انخفاض كبير في القيمة الاسمية للديون اليونانية التي تملكها هذه المؤسسات والذي يكافئ سعرها قيمتها الاسمية لا سعر السوق، من أجل إعادة رسملة المصارف ودعم وضع أموال المعاشات والمؤسسات الأخرى. ومن المحتمل أن تحتاج الأسواق إلى دعم الوضع المالي للمصارف اليونانية من خلال ضخ مبالغ أكبر من مقدار القيمة الاسمية للديون السيادية خاصة في حالة تخفيض القيمة الدفترية لأصولها بشكل كبير، بالنظر إلى تأثيره المحتمل على الثقة والآثار المترتبة على الاقتصاد الحقيقي.
في حال ما إذا كان تخفيض القيمة الدفترية لأصول المصارف كبيرا، قد تؤدي إعادة رسملة المصارف من قبل صندوق الاستقرار المالي الأوروبي إلى تأميمها مؤقتا، مما يؤدي بدوره إلى انخفاض القيمة الاسمية لأصول صناديق المعاشات التي تمتلك حصة كبيرة في المصارف. في كل الأحوال، سوف يتعين على الحكومة اليونانية تقديم دعم كبير لصناديق المعاشات، التي شهدت بالفعل انخفاضا حادا للقيمة السوقية لأصولها، التي تتضمن أسهما وعقارات، على مدى السنوات الثلاث الماضية. إضافة إلى ذلك، سيكون للخسائر الكبيرة التي تكبدها مالكو الديون الحكومية (القطاع المنزلي والشركات غير المالية) تأثير كبير على النشاط الاقتصادي وعائدات الضرائب. لذا من المرجح أن يكون صافي الفوائد المالية للدولة اليونانية من إعادة هيكلة ديونها المملوكة لليونانيين وما يرتبط به من خفض لصافي الديون ضئيلا للغاية حتى دون الوضع في الاعتبار التأثيرات المباشرة على الأموال اليونانية العامة، جراء إعادة هيكلة الديون، على السيولة النقدية في المصارف وشروط الائتمان والنشاط الاقتصادي. وتمتلك هيئات رسمية نصيبا كبيرا من الديون اليونانية الضخمة، حيث بلغت حصة حكومات دول منطقة اليورو وصندوق النقد الدولي والمصرف المركزي الأوروبي ومؤسسات مالية أخرى في نهاية يوليو عام 2011 نحو 118 مليار يورو من الديون اليونانية، أي نحو ثلث الديون اليونانية السيادية. ولا يمكن أن تؤدي إعادة هيكلة الديون إلى خسارة تلك المؤسسات حصتها لأسباب مؤسسية وسياسية وقانونية. ولا يمكن تصور أن لا تقدم اليونان كل ما في وسعها وتتخلف عن سداد الديون المستحقة لتلك الجهات الرسمية، فذلك من شأنه أن يكبد دافعي الضرائب في الدول الأوروبية الأخرى التي ساندتها خلال أزمتها خسائر كبيرة. كذلك لن يتوافق مثل هذا الفعل مع المعاهدة التي تمنع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من إنقاذ دول أخرى من خلال تحمل التزاماتها المالية من الديون. وتقدم دول منطقة اليورو الدعم المالي لليونان وكذلك آيرلندا والبرتغال من خلال قروض وضمانات لا «تحويلات مالية» شريطة أن يتم تسديد هذه القروض بالكامل.
 
كذلك يمكن القول إنه ينبغي أن لا ينتج عن إعادة هيكلة الديون اليونانية من قبل دولة في منطقة اليورو أي خسائر من حصة هذه الدولة في الديون التي اشتراها المصرف المركزي الأوروبي بهدف تحسين آلية السوق وتسهيل تطبيق السياسة النقدية في دول منطقة اليورو وحماية الاستقرار المالي. وينبغي أن تتم حماية المصرف المركزي الأوروبي من أية خسائر محتملة في حصته من الديون اليونانية جراء إعادة هيكلة الديون لأسباب تتعلق بالمبادئ ولما سينجم عن ذلك من آثار في النهاية على الوضع المالي لدول منطقة اليورو الأخرى.

سيتم تحقيق صافي الفوائد من خلال إعادة هيكلة 144 مليار يورو أي 40 في المائة من إجمالي حجم الديون اليونانية التي يمتلكها مستثمرون أجانب عن طريق تقليل حجم الديون وتكاليف الخدمات. باستثناء القروض والسندات والأوراق المالية قصيرة الأجل، ستبلغ حصة المستثمرين الأجانب من الديون اليونانية التي يمكن إعادة هيكلتها 136 مليار يورو. سينتج عن خفض القيمة الاسمية لهذا الجزء من الديون بنسبة 50 في المائة، خفض إجمالي حجم الديون بمقدار 68 مليار دولار أو بنسبة 19 في المائة.
ينبغي أن يتم تقييم صافي الفوائد المالية لليونان من خفض القيمة الاسمية للديون مقابل التكاليف الإضافية والمخاطر المتعددة بالنسبة لليونان ودول منطقة اليورو ككل. وسيرتبط هذا بإعادة هيكلة الديون، لذا سيكون صافي المكاسب أصغر. ستتجاوز العواقب المختلفة، التي ستواجهها اليونان بسبب إعادة هيكلة ديونها ومنها اضطرار مالكي السندات لتكبد خسائر، خاصة بسبب التخلف عن سداد الديون السيادية، والتكاليف الناتجة عن إعادة رسملة المصارف اليونانية ودعم صناديق المعاشات. ومن الصعب التنبؤ بحجم وشكل آثار التخلف عن سداد الديون على الثقة والسيولة النقدية في القطاع المصرفي اليوناني، الذي يواجه بالفعل مشكلات خطيرة في التمويل، والاقتصاد الحقيقي، لكن من المرجح أن تكون عظيمة وينبغي عدم التقليل من قدرها. وسوف تقوض هذه الآثار عملية الدعم المالي، خاصة إذا تسببت إعادة هيكلة الديون في أزمة ائتمانية وآثار جانبية على النشاط الاقتصادي. ولن يقبل المصرف المركزي الأوروبي، الذي يزود المصارف اليونانية بسيولة نقدية وصلت إلى 100 مليار يورو، سندات يتم خفض تصنيفها بحيث تصل إلى مرحلة التخلف عن السداد كضمان. وسيكون من الضروري تقديم «تعزيز ائتماني» لتحسين جودة هذا الضمان بتكلفة تتحملها في النهاية الحكومة اليونانية. وبعد خفض كبير يؤدي إلى تخلف عن السداد في إطار إعادة هيكلة الديون اليونانية، ستصبح عودة اليونان إلى أسواق رأس المال أمرا بعيد المنال وباهظ التكلفة.

في ظل الظروف الحالية، تعزى أكبر مخاطر إعادة هيكلة الديون السيادية لأية دولة من دول منطقة اليورو إلى الاستقرار المالي والأداء الاقتصادي لدول منطقة اليورو ككل نتيجة ازدياد احتمال انتشار العدوى المالية والتأثير الكبير لأسواق الديون السيادية على مصارف دول منطقة اليورو. وتشير الأحداث التي شهدها العالم خلال العقدين الماضيين، خاصة منذ يوليو عام 2011، إلى جسامة خطر انتشار العدوى المالية والآثار واسعة النطاق على المصارف، التي زعم البعض أنها ستكون محدودة ويمكن احتوائها، فقد بات تأثير هذا الأمر على ميزانيات المصارف الأوروبية وكذلك المال العام والنشاط الاقتصادي لعدد كبير من دول منطقة اليورو أكثر وضوحا. وسيكون حجم العدوى المالية وآثارها على القطاع المصرفي في منطقة اليورو والشروط الائتمانية والنشاط الاقتصادي أكبر من أن يتم استنتاجه من خسائر المؤسسات المالية لحصتها في الديون السيادية لدولة ما. وما يزيد من احتمال انتشار العدوى المالية وتأثيرها هو ردود الفعل السلبية بين أسواق الديون السيادية والقطاع المصرفي والاقتصاد الحقيقي وكذلك التأثير السلبي على الثقة وتوقعات السوق التي من المرجح أن تصاحب التخلف عن سداد الديون السيادية. وتتضمن الزيادة الحادة الحالية في عائدات السندات السيادية في منطقة اليورو رسالتين تحذيريتين؛ الأولى هي ضرورة عدم تبني خيار عملية إعادة الهيكلة الصعبة والتخلف عن السداد. والرسالة الثانية هي الحاجة الماسة إلى معالجة الخطر المتنامي المتعلق بالنظام على الاستقرار المالي لمنطقة اليورو الناجم عن اضطرابات أسواق الديون السيادية، بطريقة شاملة وجديرة بالثقة.
ويشير التحليل وتقييم المخاطر السابق إلى أن هامش الربح في ما يتعلق بخفض حجم الديون بدرجة أكبر سيكون متواضعا نسبيا، فيما ستكون التبعات الاقتصادية العكسية ومخاطر الاستقرار المالي كبيرة بالنسبة لكل من اليونان ومنطقة اليورو. وعلى وجه الخصوص، بوضع هيكل الدين السيادي اليوناني واتفاق مشاركة القطاع الخاص الذي أبرم في يوليو في الاعتبار، من الممكن أن تؤدي زيادة في معدل خفض نسبة الدين من نحو 20% إلى 50% إلى خفض في حجم الدين اليوناني العام بنحو 15 – 20 مليار يورو، بنسبة تتراوح بين 4 – 6%. وسوف يعتمد حجم خفض الدين الفعلي بالطبع على خيارات ومواصفات ومؤشرات مشاركة القطاع الخاص المنتقاة.

لا توجد أي حلول ميسرة بالنسبة للمدينين، كما لا توجد حلول سهلة بالنسبة للدائنين. ويواجه القادة السياسيون وصناع السياسة مبادلات صعبة بين الأرباح والتكاليف والمخاطر المحتملة. ومن المرجح أن تقود عملية إعادة الهيكلة الإجبارية للدين السيادي اليوناني إلى صافي مكاسب مالية متواضعة نسبيا (صافي التكاليف المرتبطة بعملية إعادة رسملة البنوك وتعزيز الائتمان، وأشكال أخرى من الدعم المالي، وتأثيراتها على سيولة البنوك والنشاط الاقتصادي) وتشكل مخاطر كبيرة من شأنها أن تهدد الاستقرار المالي والأداء الاقتصادي لمنطقة اليورو بأكملها. ومن شأن إدراك هذه المخاطر أن يشكل عبئا أكبر على دافعي الضرائب الأوروبيين وأن تكون له تبعات غير مرغوب فيها بالنسبة لاستقرار وتماسك منطقة اليورو وأن يهدد مصداقية اليورو. ولجميع هذه الأسباب، ثمة حاجة ماسة إلى حزمة سياسات شاملة ومقنعة يمكنها أن تساعد في استعادة ثقة السوق والجمهور سعيا لحل أزمة الدين الأوروبية 

السابق
أوباما وأردوغان..اهتمامات مشتركة
التالي
ماذا تعني أزمة اليورو للاقتصادات العربية؟