دولة واحدة لكل سكانها

هذه الفكرة الجديدة القديمة، التي سأتكلم عليها هنا خطرت ببالي زمن عودة غلعاد. ربما بسبب معجزة الابن الضائع العائد من الأموات، وسعادة العائلات في الطرفين وبين يديها طبول الحرب، وتبيُن انه ما يزال يخفق فينا استعداد عميق لدفع ثمن الحياة، كل ذلك شحذ عندي الشعور بأن أكثر الاشياء التي نخافها هو أقل فظاعة من الشيء الذي نُساق اليه.
الفكرة هي انه ينبغي الآن اعادة البلاد لكل سكانها. لهم ولنا كي نحيا ولا نموت. وأن نحاول ان نُزيل عنها، وإن يكن ذلك بطريقة معقدة ورابعة ومعيبة جدا، لعنة الصراع، وسحر الاحتلال، والشهداء والطائرات، وقطاع اشجار الزيتون وراسمي شارة الثمن، ومتطرفين في سبيل الله، وجميع الاعشاب الوحشية التي تنمو في ارض الدم.

الفكرة تناقض ميل القلب الى الفصل والسور وهي ان نحيا معا. كل واحد من العشرة ملايين ونصف المليون من الاسرائيليين والفلسطينيين، من البحر الى النهر ومن قطاع غزة الى النقب والضفة الغربية، والدهيشة وكيبوتس رفيفيم ودير البلح، متساوي الحقوق مع عاصمة واحدة وحكومة واحدة، ويكون أبو مازن نائب بيبي أو تسيبي، وتكون ميزانية واحدة وإلهان أو ثلاثة.

وهذا الشيء الذي بدا لي ذات مرة كابوسا يؤيده قليلون جدا فقط، أخذ يتغلغل الآن ويُسمع ويُفكَر فيه هنا وهناك. وهو ببساطة الحل الواقعي الوحيد الباقي.
لأن فكرة تقسيم البلاد التي يتحدثون فيها منذ ثماني سنين وأكثر ـ هذه الفكرة غرقت في البحر، وشوشها المتطرفون بحيث لم يعد في الامكان اصلاحها، وانتحرت على أيدي اولئك الذين يريدون كل شيء، عندنا وعندهم، في غزة الحماسية وفي الخليل وفي خليل لفنغر. لم تعد توجد طريقة لتقسيم البلاد ولم يبق سوى ان نحيا معا في مساواة كاملة، من غير احتلال ومن غير سور، ومن غير خط اخضر محوناه، ومن غير ان يُقتلع أحد: لا فلسطيني واشجار زيتونه ولا مستوطن ومظلاته.
إن كل ما كان وبقي قبيلتان تداخلتا بحيث لم يعد في الامكان تخليصهما. وحكم الواحد للآخر الذي بلا حقوق ـ أفسدنا وأفسدهم. صراع عمره 100 سنة وأكثر، مع سلسلة ثابتة من الانفجارات الدموية، وما لا يحصى من محاولات الاصلاح والحل، ومئة وسيط وألف اقتراح، وحاصل الاخفاقات نفسه، كل ذلك أفضى بنا الى المكان المخيف الذي فيه ستة ملايين يهودي محاطون بسور اسمنتي، وجدران كهربائية وأبراج حراسة، ويئنون تحت نير رأسمالية فاسدة منهم أنفسهم ويسيطرون على شعب آخر بأحكام من النوع الذي فُرض عليهم مدة ألف سنة.

أُفسد منظر المجتمع القدوة الذي أُنشىء في مطلع القرن الماضي بحيث لم يعد من الممكن التعرف عليه. وقد أُصيب بوباء وسُمم ولا ينجح في أن يشفى من مرضه بسبب الصراع. وكذلك القبيلة الفلسطينية التي عاشت سنين كثيرة جدا تحت نعال الآخرين الثقيلة، ثُقبت كاسفنجة بالمتعاونين، وهُزمت لتصبح جمهورا متطرفا يطلب الموت في جزء منه ويشتاق الى الحياة بقوة في أجزاء اخرى.

وهكذا يوجد بعضهما الى جانب بعض الآن مجتمعان ضربتهما المعارك وهُتك نسيجهما وشُوشت حياتهما وفيهما كلاهما تصعد قوى وقادة عنيفين، وأعشاب وحشية وعصابات مسلحة ومتطرفون متدينون يعيشون على الدم.
فاذا امتد الصراع سنين اخرى فسيجلب الفناء على القبيلتين الممسك بعضهما ببعض. وسنعاود سفك دمائنا بعضنا لبعض ونحارب الى أن تغيب بقايا الديمقراطية، ويصبح كل شيء مريضا مزمنا ومبتذلا واستبداديا ومرهقا، الى ان يضيق عالم جديد تديره الصين أو غيرها بنا ذرعا ويفرض سلطته على الجــرح في الشرق الاوسط بقوة الذراع.
من المرغوب فيه ان نعمل الآن، وما يزال في أيدينا بعض أوراق اللعب وبتعاون مع عالم ما زالت تحكمه صديقتنا الامريكية وان نحاول ان نصوغ اطار عيش مشترك، مع دستور كامل واتفاقات، مهما يبدو معقدا داحضا في البدء فانه أفضل بمئة مرة مما يتوقع لنا بعد ذلك بطريق الدم وأحلام يأجوج ومأجوج.  

السابق
مضى القذافي فهل الاسد على الطريق؟
التالي
شيخ العقل حسن نعيم التقى وفدا بحرينيا