الصحافة العربية أسيرة الخوف والرقابة

ما هو موقع الصحافة العربية ضمن صحافة العالم؟ لا بد أنه بين المتدني منها إن لم يكن في القعر، فثمة فساد نخر جذور المهنة مع ضعف المداخيل وشدة الرقابة.

لا أزال أنتظر أن تنشر وثائق عهد القذافي عن الصحافيين العرب الذين زاروا طرابلس وأقاموا في فنادقها أياماً وأسابيع وشهوراً بانتظار أن يُرتشوا. وفي غضون ذلك توفر لي الصحافة الغربية دروساً في أصول المهنة كما لا تُمارَس في بلادنا.

كنت في نيويورك لحضور دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة أو دورة فلسطين، وتابعت على هامشها قضية صحافية بدأت بمقال في «كولومبيا جورنالزم ريفيو» كتبه ماكس بلومنتال في 14 من الشهر الماضي واتهم فيه إيثان بونر، مدير مكتب «نيويورك تايمز» في القدس، بتضارب المصالح في عمله للجريدة وتعاقده مع شركة الاتصالات «لون ستار» التي تدبر له إلقاء محاضرات مقابل أجر. بولمنتال قال إن مدير «لون ستار» تشارلي ليفين، هو رجل علاقات عامة إسرائيلي معروف، من اليمين الإسرائيلي، ومستشار لعدد من الصهيونيين البارزين كما أنه احتياطي في وحدة الناطقين باسم الجيش الإسرائيلي.

ودرس بولمنتال ست حالات من تضارب المصالح في عمل بونر بينها تغطية نشاط الصندوق الوطني اليهودي (صندوق الجباية) وداني دانون، نائب رئيس الكنيست ورئيس ليكود حول العالم.

المقال الأصلي أطلق عدداً من التعليقات بينها مقال آخر لبلومنتال نفسه، ما جعل «محرر الجمهور»، أي مراقب المادة المنشورة في «نيويورك تايمز» آرثر بريسبين (يسمونه بالإنكليزية OMBUDSMAN) ينشر مقالاً في 25/9 هو بمثابة حكمه على الجدل القائم.

بريسبين قال إنه لا يكفي أن تتجنب الجريدة تضارب المصالح، بل يجب أن تتجنب أي انطباع بتضارب المصالح، لأن الضرر عليها في الحالين واحد، وهو استشار خبيرين في أخلاقيات الصحافة وخلص إلى استنتاج أن علاقة بونر مع «لون ستار» لم تكن فاسدة كما قدر بلومنتال وإنما علاقة غير حكيمة خلقت انطباعاً بالفساد، مع أنها ليست فاسدة، ويجب وقفها.
قرأت أن «لون ستار» دبرت لبونر إلقاء ستة خطابات من أصل 75 خطاباً ألقاها منذ أصبح مدير مكتب «نيويورك تايمز» في القدس قبل ثلاث سنوات ونصف السنة. وكان يفترض فيه أن يبلغ جريدته إن كان حصل على أكثر من خمسة آلاف دولار في السنة أجراً عن عمله هذا، إلا أنه لم يفعل زاعماً أنه اعتقد أن التبليغ مطلوب عن المبلغ إذا كان أجر خطاب واحد.

مقال محرر الجمهور أعاد إلى الذاكرة مشكلة سابقة تعرض لها إيثان بونر عندما خدم ابنه مجنداً في الجيش الإسرائيلي، ما جعل «محرر الجمهور» السابق كلارك هويت يطلب نقله من عمله لتضارب المصالح. غير أن مدير التحرير التنفيذي في حينه بيل كيلر أيّد بقاء بونر في المنصب لأنه شخصياً لم يرتكب خطأ.

لا أعتقد أن صحافياً عربياً مثلي يمكن أن يدعي الحياد في موضوع مثل هذا، ولكن، أحاول وأقول إن بونر ومنتقده بلومنتال يهوديان، ومثلهما مالكو «نيويورك تايمز» التي تصف نفسها بأنها أهم جريدة في العالم. مع ذلك لم ألاحظ يوماً أخطاء في الأخبار التي تحمل اسم بونر في جريدة أقرأها يومياً منذ عقود، فالخبر دائماً صحيح واعتراضي، دائماً أيضاً، على بعض كتاب الرأي الليكوديين لا المراسلين.

عندما طلب كلارك هويت نقل بونر من منصبه قال إن «نيويورك تايمز» يجب أن تكون مستقلة فعلاً وفي الانطباع عنها، وآرثر بريسبين بدأ مقاله ملاحظاً أن الجدل حول بونر جاء عشية طلب فلسطين العضوية في الأمم المتحدة وحاجة الجريدة إلى الابتعاد عن تضارب المصالح، بل إلى عدم وجود انطباع، حتى لو كان زائفاً، بتضارب المصالح. لذلك أنتظر ما سينشر من أسرار حكم القذافي.

أكتب مدركاً أن الصحافة العربية لا تملك ذلك القدر من مهنية الصحافة الغربية إلا في ما ندر، فهي أسيرة الخوف والرقابة ونقص الدخول عن حاجات العمل. والقاعدة العامة أن هذه الصحيفة في بلادنا أو تلك محسوبة على بلد أو ثري ومثلها الصحافي العامل فيها. مع ذلك أعرف صحفاً عربية تدافع عن استقلالها وتدفع الثمن، وأعرف صحافيين عرباً مستقلين فعلاً، وبعضهم ضحّى بحياته ثمناً لاستقلاله المهني.

ثم هناك الغالبية.  

السابق
التقاء المحامين في مقر نقابة المحامين في النبطية
التالي
حرب إقليمية…أهي المخرج من المأزق؟!