الكتب الدينية التي تدرّس للأطفال!!

عاد فادي من المدرسة، في أحد الأيام، وأبلغ أمه أنه لن يلعب مع أولاد خالته بعد اليوم «لأنهم كفار وخالتي كافرة أيضاً». ولدى استفسار والدته عن السبب، قال فادي إن المعلم شرح لهم أن المسلم الذي يتزوج من شخص غير مسلم يكون كافراً، ولا ينبغي أن نتعاطى معه. وبما أن خالة فادي متزوجة من شخص مسيحي، فقد قرر أن يقاطعها مع عائلتها.
في منزل آخر على الأرض اللبنانية نفسها، عاد آدم من مدرسته ليحذّر أمه من جيرانها المسلمين. قال آدم إن المعلمة شرحت لهم اليوم عدوانية الدين الإسلامي، وكيفية نشر المسلمين لدينهم بالقوة والعنف، بعدما غزوا المناطق والبلدان المسيحية وحاربوا ناسها، ونهبوا كل ما وقع بين أياديهم.
في المقابل، تمنح الدولة اللبنانية طوائف البلاد، في المادة العاشرة من الدستور اللبناني، الحق في إنشاء مدارسها، رافضة، وفق النص عينه، المسّ بـ«حقوق الطوائف لجهة إنشاء مدارسها الخاصة». ولم تكتف الدولة بمنح الامتيازات التربوية المطلقة للطوائف، خصوصاً لجهة التحكم بمدارسها الخاصة، بل عمدت، ومع المنهاج التعليمي الرسمي الأول الذي وضعته في العام 1946، إلى إدخال الدين إلى المدرسة الرسمية.
وبذلك، تقول رئيسة «جامعة اللاعنف في لبنان والعالم العربي» الدكتورة اوغاريت يونان إن «السلطات الرسمية اللبنانية أتاحت للسلطات الدينية الاستمرار بنشر تعاليمها كلاً على حدة، وبعيداً عن أي رقابة، وخارج إطار أي فلسفة تربوية أو رؤية شمولية لمسألة على هذا القدر من الدقة، وفي بلد آفته الأولى هي الطائفية». وتؤكد يونان أن «تعرّف التلميذ في المدرسة إلى زميله المختلف دينياً، يتم للمرة الأولى عند فصل التلامذة في ساعة التعليم الديني، حيث يخرج المسيحيون من ساعة المسلمين والعكس صحيح، مع ما يخلفه ذلك من تمييز بالنظرة إلى الآخر من دون تعريف واع وتثقيف حقيقي لكل منهما تجاه الآخر».
وكترجمة لنتيجة سياسة الدولة تجاه التعليم الديني وتشجيع التعليم الخاص، المنتمي بغالبيته العظمى إلى مؤسسات الطوائف، يتوقف الأستاذ في كلية التربية في الجامعة اللبنانية وعضو «تيار المجتمع المدني» الدكتور علي خليفة عند نتائج دراسة تمحورت حول «شعور الانتماء الوطني وعناصر الثقافة المواطنية» لدى تلامذة لبنان، وشملت طلاب مئة وإحدى وستين مدرسة ثانوية في البلاد.
أفادت معطيات الدراسة بأن «مشاعر الانتماء دون الوطنية (طائفية أو عائلية، تنتظم من خلال علاقات أفرادها في إطار الطائفة الدينية)، تتصدر قائمة انتماء التلامذة في كافة المدارس اللبنانية. وبيّنت الأرقام أن العائلة أو الطائفة الدينية، هما ما تذكره نسبة 63.5 في المئة من التلاميذ في طليعة شعور انتمائهم الجماعي».
وعليه، تكون الدولة، وعن سابق إصرار وتصميم، مسؤولة عن الأرقام التي أفضت إليها الدراسة.
وفي محاولة للتمعّن في تأثير التعليم الديني المدرسي على عقليات التلامذة وتشكيل انتماءاتهم وشخصياتهم، ارتكزت الرسالة الجامعية للدكتور شربل انطون ضمن دبلوم الدراسات المعمقة في العلوم السياسية، حول «التنشئة السياسية في لبنان، التربية على التسامح من خلال الكتب المدرسية»، ليحلل فيها انطون كتب التربية المدنية والتعليم الديني المعتمدة في معظم مدارس لبنان.
بلغ عدد الكتب التي حللها الدكتور انطون سبعة وسبعين كتاباً، تتوزع على الصفوف الابتدائية والمتوسطة والثانوية، مقسّمة بالتساوي بين الأديان.
يحدد انطون بعض العناصر المشتركة التي جمعت الكتب الدينية في لبنان، مع تفاوت في نسب وجودها بين هذا الكتاب وذاك. فتتلخص العناصر بعدم اتساع الكتب الدينية لآخر مختلف دينياً، والتمييز ضده، وتكوين صورة مسبقة ومشوهة ونهائية عنه، وتناقض المضامين مع التسامح (الذي تقوم عليه الأديان مبدئياً)، والتركيز على الأخلاقيات عبر ربطها بالدين وحده، وجعل الدين عقيدة كبيرة جامدة ونهائية تنزل كالجبل على رأس التلميذ، وتعليم الطائفية، ويأتي ذلك كله في إطار تعليم ديني تلقيني.
يجري ذلك كله في بلد عرف على مرّ تاريخه، وحتى قبل إنشاء لبنان الكبير، سلسلة من المواجهات بين أهله مبرراتها دينية وطائفية. وقد خصّ الدكتور علي خليفة في كتابه «أبناء الطوائف» الصدامات المذكورة برسم بياني يشير إلى تواريخ حدوثها، بدءاً من العامين 1840 و1860، مروراً بأحداث العام 1958 وصدامات 1963، وصولاً إلى الحرب الأهلية في العام 1975.. وصولاً إلى ما يدور حالياً في البلاد.
وهنا، تمكن الإشارة إلى أن التعليم الديني في لبنان، ضمن إطار مدارس الطوائف، سابق على التعليم الرسمي. وكانت مدارس الطوائف في زمن المتصرفية هي التي تسمّى المدارس الوطنية، فيما كانت مدارس الدولة العثمانية تعرف بـ«المعارف»

تقول الدكتورة أوغاريت يونان في إطار بحثها حول التعليم الديني في لبنان، إن الدولة اللبنانية، بعد إدخالها الدين إلى المدرسة عبر المنهاج التربوي الأول الصادر في العام 1946، قد عادت وأدخلته ضمن تعديل المناهج التعليمية في العامين 1968 و1971، كـ«مادة إلزامية في المدارس، وفي المراحل التعليمية كافة، من دون أي تفصيل عن المنهاج العائد له، حيث اقتصر الحديث عن تخصيص ساعة أسبوعياً للتربية الدينية».
ومع تعديل المناهج في العام 1996، واستفحال النعرة الطائفية في البلاد، ألغت الحكومة اللبنانية، بعد اتفاق الطائف، التعليم الديني من المدرسة الرسمية، وتركت الحرية للمدارس الخاصة والطوائف في الاستمرار بإدراجه في مناهجها التربوية. لكن سرعان ما أدت المعارضة الشديدة التي أبدتها مؤسسات الطوائف، وخصوصاً الطائفة السنية، إلى إلغاء الحكومة في العام 1999 لقرارها السابق، وإعادة التعليم الديني إلى المدرسة الرسمية كحصة أسبوعية تحت عنوان التربية الدينية (أيام حكومة الرئيس سليم الحص)، على أن يحصر تعليمه بكتاب يعدّه المركز التربوي للبحوث والإنماء.

وفي العام 2000، اعترفت الحكومة اللبنانية بضرورة وضع كتاب ديني موحد للمسيحيين وآخر للمسلمين، على أن يتضمن كل منهما قسماً يعرّف بالدين الآخر، وذلك لكل صف من صفوف المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، وأن يوضع كتاب موحد للمسيحيين والمسلمين في المرحلة الثانوية، يشمل إلى موضوعات خاصة بكل من الديانتين الأساسيتين، قسماً موحد النص يتضمن القيم المشتركة لدى الديانتين.
وعليه، تم تشكيل لجنة من 12 عضواً لوضع الكتاب الموحد للمرحلة الثانوية، وأعطيت اللجنة مهلة ثلاث سنوات بناء على طلبها، لإنجاز الكتاب.
وبعد انقضاء المدة المحددة، توصّل المسيحيون إلى وضع كتاب موحد للمرحلتين الابتدائية والمتوسطة، بعد تجاوز الفوارق والتباينات بين الطوائف المسيحية، فيما لم ينته العمل في اللجنة المشتركة الإسلامية. وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى كتاب التعليم الديني الثانوي، حيث توقف عمل اللجنة قبل أن تصل إلى وضع الكتاب المفترض، وفق ما أكد احد أعضاء اللجنة لـنا.

وبناء على ما تقدم، يترك حبل التعليم الديني على غاربه في لبنان. ولا يقتصر الأمر على كتاب موحد لكل ديانة أو طائفة من الطوائف الثماني عشرة المعترف بها رسمياً، بل تتجاوزه إلى وضع كل مدرسة تابعة لجهة دينية معينة كتابها الخاص الصادر عن هذه الجهة أو تلك، بعيداً عن أي رقابة رسمية ووطنية فعلية. وبذلك، تتخلى الدولة عن دورها الرقابي الذي منحها إياه الدستور، وفقاً للمادة العاشرة نفسها التي منحت الطوائف حرية إنشاء مدارسها «على أن تسير في ذلك، وفقا للأنظمة العامة التي تصدرها الدولة في شأن المعارف العمومية».
وتؤكد المعطيات المتوافرة، وتحديداً عدم توصل اللجان إلى وضع كتب دينية موحدة حتى داخل الديانة الواحدة، أن محاولات الدولة تنظيم التعليم الديني في المدارس، على علاتها، ما زالت في بداياتها، ونحن في عهد الجمهورية الثانية، وبعد مرور خمسة وثمانين عاماً على إنشـاء لبنان الكبير.

السابق
مواطن يقفل مدخل الكتيبة الماليزية في حاريص
التالي
عراجي: خلاف تيار المستقبل مع بري سياسي