همدان مهدي أو سيرة قديس

كان بمقدور الشيخ المعمم الذي صلّى على جثمان الرفيق همدان المسجّى خفيفا أمامه وكأنّه لا يريد أن يثقل على حامليه، أن يكتفي بعبارة «اللهم لا نعرف عنه إلا خيراً». يستطيع المئات ممن هبّوا إلى وداع الفقيد أن يكونوا شهوداً على استثنائية الرجل. ويستطيع آلاف سواهم ممّن عرفوه أن يُزكّوا تلك الشهادة.
وهمدان مهدي هذا، لم يعرفه رفاقه وأصدقاؤه من خلال موقع تنظيمي أو من خلال تصريح. لكنّهم، مع ذلك، عرفوه كثيراً وطويلاً. وظلّ هو هو، لم يتغيّر. حتى في شكله لم يتغيّر. ولولا ذلك المرض الخبيث، لظنّ عارفوه أنّه سيبقى على ما هو عليه، إلى يوم القيامة. لم يتغيّر همدان أيضاً في سلوكه وعلاقاته وإخلاصه وتفانيه: كأنّما كان، دائماً، ينفّذ المهمة الأولى في كلّ أعماله اليومية الكثيرة التي واظب على القيام بها دون كلل ودون تهاون ودون تأفّف… طيلة ما يقارب الخمس وخمسين سنة!
بصمت عمل همدان: في المهمات التي كانت تتطلب الصمت بسبب طبيعتها السرية: توزيع المنشورات. تبليغ مواعيد اللقاءات والاجتماعات. نقل وإيصال الأشخاص والأسلحة في مراحل الأزمات وفي زمن المقاومة. متابعة أماكن ومهمات سرية. وبصمت عمل أيضاً في مراحل التوترات والتحوّلات والصراعات الداخلية والثرثرة والنميمة!
ولقد مكّنه شعوره العالي بالمسؤولية، وترفّعه العفوي عن الصغائر، كما مكّنه دفء قلبه ولسانه، من أن يبقى محطّ ثقة الجميع، الذين وإن اختلفوا على كلّ شيء فقد أجمعوا على محبته واحترامه، وخصوصاً أقرب الناس إليه، وهم الفريق الذي عمل معهم وعملوا معه، فتأثّروا كثيراً بأسلوبه الهادئ وباستقامته الراسخة وبشغفه الدائم.
يجب أن نشهد الآن بأنّه كان يحمينا من الكثير من أخطائنا. وأنّه كان يملك من الصلابة والثقة والتفاني ما يجعلك تشعر، فوراً، أن الدنيا ستكون بخير، وأنّ المستقبل واعد، وأنّ المناضلين لا يطلبون، لا جزاء ولا شكوراً.
كان يمارس دوره وتأثيره دون أن يقول كلمة واحدة واعظاً أو عاتباً أو حتى مذكّرًا! فكلماته كانت بمقدار ما كانت تقتضيه هُنيهات التبليغ، وكان ذلك منتهى… البلاغة! لا تنصف هذه الكلمات همدان. فهو قد مضى في صفائه ونقائه وعطائه إلى حدود ما يتصوّره الناس من سِيَرِ القديسين: فهو الذي انهمك في مهماته إلى حدود الاستغراق الكامل، كاد ينسى أن ينشئ لنفسه عائلة. وحين فعل متأخّراً لم ينسَ أن يؤكّد أنّه لا يبغي من حطام هذه الدنيا شيئاً.
جعلت الصعوبات، كما السنوات، نظراته أكثر تساؤلاً، لكنّها لم تبدل أبدًا من عزيمته وسيرته. حتى في ذروة مرضه، وحين أصبح ينطبق عليه قول المتنبي «لولا مخاطبتي إياك لم ترنِ»، ظلّ يشعرك أنّه واثق ومؤمن. تأفّفه الوحيد كان من الطعام الذي أبته معدته المصابة. لكنّه تغلّب على ذلك بما كان اعتاده من تناول القليل منه حين كان في ذروة الصحة والحاجة.
همدان ابن مرحلة ومدرسة البذل والاستقامة والإخلاص والتفاني، أضاف على قيم هذه المدرسة الكثير، وفضيلته الكبرى كانت في المثابرة، برغم تبدّل الأحوال والظروف: كأنّه لم يكن يرى إلا النصف الملآن من الكأس، وكأنه لم يرَ من الناس ومن رفاقه إلا حسناتهم، وكأنّه لم يكن يعلم عنهم إلا خيراً!

السابق
جمعية التأهيل الإنساني تحي عيد الفطر
التالي
احمد قبلان: الدولة تحتاج الى رجال دولة وعقلاء لوضع حد لسياسة هدم وارتهان وعمالة مارستها الحكومات السابقة