عن السلمية خارج قاموس التشبيح!

حتى الآن، لم يُعرف عن الشعب السوري تديّنه للسلمية. إنه يعتصم بها، ويرفعها عقيدته العظيمة فلا يشذّ عنها حتى لو قطعوا رأسه. حتى جدتي، كانت تحتاج إلى التأكّد أنها خسرت ميزان القوة في عراك أهلي، كي تخرج إلى الشرفة، وتطلق الصوت داعية سابع جار لنصرة «المسالمة»: «تعالوا خلصونا، ولك رح يموتونا». هي التي كانت قبل لحظات تفتعل المشاكل وتحمّيها، وينسى من يرى حيويتها في المناورة و«النزال» أنها تخطت الستين. لم تكن بالطبع فريدة من نوعها. كثيرة هي تلك الحكايات الأهلية المحلية. وكي لا نبتعد كثيرا، لقد رأينا في المدينة الجامعية حربا حقيقية. لن نذكر بين من ومن، لكن الأمر انتهى بما يشبه كتيبتي طلاب متواجهتين في ساحة المدينة، كما يلتقي جيشان في الحروب القديمة، وكانت الصفوف الخلفية تستعجل الالتحام برمي ما تيسر على الخصوم مقابلهم.

هناك قصص وقصص، وكنا لا زلنا نتحدث عن فترة «استقرار»، فما البال بحالة انتفاضة شعبية يسقط فيها الشهداء يوميا. أين سيكون محل إعراب «السلمية» في ذلك؟!

على كل حال، لا يمكن القول إن الشعب معبأ أيديولوجيا باتجاه السلمية. أو أن فنون اليوغا والتأمل كانت رياضته المفضلة، مثلا، ليصبر على التضحية يوميا بالشهداء. المنتفضون السوريون يعيشون تراجيديا يومية تصلح للملاحم: يخرجون يوميا، ويعرفون أن الرصاص في لحظة ما سيختار منهم، يدفنون من يسقط، ويسقط ممن يشيّع، ثم ببساطة يتفرقون ليعودوا قانعين بتقديم قرابين لإله المسالمة. الشعب السوري المنتفض الآن يخوض معركة حقيقية مع نظام حكم ليست الإجرامية فقط أسوأ صفاته. إنها معركة، وعليهم أن يمضوا إليها بسلاح المواجهة. هكذا، اختاروا السلمية سلاحا. بالتأكيد لم تضئ اللمبة فجأة في رأسهم فاكتشفوها، لقد جرّبت قبلهم ونفعت. جرّبت في تونس وفي مصر واليمن، وبالقياس بالنتائج (رئيس هارب، رئيس مخلوع، ورئيس يعاند بعدما تحول إلى مومياء تريد أن تحكم) يمكن عدّها «سلاحا فتاكا» في وجه أنظمة مدججة بالخارجين عن القانون. لقد اهتدى مريدو التغيير إلى السلمية سلاحا، وليس مفاجئا أن يتمسكوا به. من يرمي سلاحه في معركة، والنيران تلعلع! ولأن الشعب ليس مفطوما على السلمية، يحذر معارضون سوريون، قلبهم على بلدهم، من الذهاب إلى المجهول، إذا استمر عنف السلطة وإجرامها.

في الجانب الآخر كان «التشبيح»، تدرجاته ومستوياته، المستمد من شريعة الغاب عندما لا تنفع القوانين وتحايلاتها في صون السلطة المطلقة. وهذا لم يأت من فراغ، بل كان بناء «جمهورية الشبيحة» مدروساً. للإضاءة على ذلك يمكن أن نستمع إلى ما يقوله السيد سمير التقي، وهو مدير مركز «الشرق» للدراسات الدولية، وكانت دراساته عمليا لخدمة «أصحاب القرار» السوري، لكن الرجل غادر سوريا، ومركزه أغلق منذ عام تقريبا، لأنه «لم يعد يحتمل ضمن النظام القائم مركز يطرح أفكارا ونقاشا»، كما قال في حديث تلفزيوني لقناة «العربية». يقول التقي إن الوضع الداخلي في سوريا متصلب تماما و«مبتوت به»، حيث «القرارات السياسية (منحصرة) في حلقة ضيقة». لكن ما جوهر المشكلة؟

يرد الرجل: «الأجهزة، هذه هي المشكلة، لا إصلاح ولا غيره ولا قوانين، (بل) الأجهزة». ثم يضعنا في السياق: «القوانين السورية تسمح للأجهزة بالاعتقال، بأن تصدر أحكاما ميدانية وأن تنفذ هذه الأحكام. إذاً هي ليست مدعيا عاما. هي قاض ومنفذ أحكام، و(ليكْمل التشبيح) هي سريّة». يخبرنا أن النظام كان يؤخر عمدا الإصلاح، في حين أعدّ مركزه البحثي، وهناك غيره، «آلاف وآلاف الدراسات حول القضايا: من المازوت إلى الأكراد، وقدمت 20 حلا لكل قضية»

علينا إذاً أن نصدق رئيس الجمهورية عندما يقول إن «الدراسات كانت في الدرج»، عندما يهمّ إلى إعلان «عزمه» على الإصلاح، لكننا لم نكن نعرف قصده بالقول: «نحن نعرف طبائع بعضنا»، عندما برّر التأخر في الإصلاح في خطابه الأول. لا، لا نعرف، ومن أين لنا. لكننا يمكن أن نعرف لاحقا، فهذا هو مدير مركز دراسات احتكّ عن قرب بالنظام، يخبرنا: «الأجهزة توغلت في المجتمع السوري، وصارت تدير اقتصادات ظل واقتصادات سوداء في مختلف أنحاء الاقتصاد والحياة السياسية عبر تركيبة لإعادة إنتاج حالة الولاء».

إذاً، انطلاقا من مكابدات الانتفاضة، وبالاستفادة من تجربة مركز دراسات، لا يمكن عدّ أولئك «السائبين» بين الناس بعنفهم وإجرامهم سوى: صغار الشبيحة. غيرهم، هناك شبيح مفكر، وشبيح اقتصادي، وشبيح سياسي، وشبيح مخابراتي… ولا بد من كبار الشبيحة، وكبيرهم. نحن أمام جمهورية شبيحة، وكل من فيها يخدم نظام التشبيح الهرمي، مشمّرا عن ساعديه الغليظين، أو لابسا ربطة عنق. هكذا يمكننا أن نفهم أيضا غياب «المطالب الاجتماعية والاقتصادية» عن الانتفاضة، بحسب نقد غزير وجّه إليها مؤخرا.

الانتفاضة السورية أدركت وتأكدت من جوهر النظام السوري. بعدها لم يعد مفيدا كثرة المساجلة. أصبح جليا بالنسبة للمنتفضين مدى العبث الكامن في طلب الإصلاح من نظام «شبيحة». كيف يطلبون من نظام استرخص أرواحهم إلى هذا الحد أن يصلح في شؤون عيشهم، وإذا لم يكن يعنيه أصلا أن يعيشوا (يحيوا)، فكيف سيعنيه في أي شكل جعلهم «يعيشون بشكل أفضل»! وبعد كل ذلك، سيكون تقسيم السوريين إلى «معارضين» و«موالين» نوعا من الظلم للأخيرين. هناك الشبيحة، وهناك المعارضون بصمت خوفا من أفعالهم، وهناك القلقون، بدرجات ومستويات، على مستقبل البلد لعوامل كثيرة، لكنهم من دون شك ضد فنون التشبيح.

في سوريا للدقة: مواطنون و«جمهورية شبيحة». في كل دول المواطنة تُخصص سجون للخارجين عن القـانون، ولم يثبت في التاريخ أن انتفاضة سلمية للمواطنين كانت خارجــة عن القانون، طبعا إلا في قاموس «المختصر في التشبيح» (طبعة 2011، إصدار أجهزة مخابرات النظام السوري). لصون السلطـة المقدسة، كان ما يهمّ هو الخارج، فالنظام عدّ الداخل في جيبه. لذلك لم تكــن ابتسامات اعتداد واستقواء، تلك التي لاحت على وجه الانتفاضة، عندما أعلن رؤساء «الدول السيدة»، أن على الرئيس التنحي. إنها ابتسامات شماتة. لم يكن الخارج يوما في حساب الشعب السوري، لكن حساب النظام على السلطة كان متغيره الوحيد وملعبه هو الخارج… هنيئا له!

السابق
سلوك سعودي جديد تجاه حزب الله ودمشق
التالي
تركيا وتداعيات الربيع العربي