بين العقيد واللواء!

لم يعد للعقيد الليبي من مخرج من زنقته. وما عادت فضائل كتابه الأخضر ونظريته العالمية الثالثة كافية لإخراجه من ملجأه سليماً معافى. وما عادت "جموع الملايين" التي ينادي عليها في كل طلّة هاتفية متلفزة مهمومة بتلبية نداءاته. بل بان المشهد في اليومين الماضيين عن انكسار تام، وهزيمة عارية عزّ نظيرها في الزمن الحديث.. وعن نهاية لا تليق إلاّ به وبأمثاله.

ويبقى للزمن القريب (أو البعيد) ان يكشف تفاصيل الأيام الأخيرة من التطورات الليبية المتسارعة، وخصوصاً لكيفية انقلاب مسار العمليات الحربية بسرعة قياسية الى نطاق حسم يبدو الآن، انه كان ممكناً منذ الأيام والأسابيع الأولى، بعد مراوحة في الكرّ والفرّ استمرت شهوراً، ورسّخت (أو كادت) انطباعاً بأن ليبيا انحدرت الى مصاف الدول المصابة بحروب أهلية مديدة، لا قدرة لطرف فيها على الحسم، حتى لو كان فوقه سلاح الجو التابع لحلف "الناتو"!

غير انه بانتظار تلك الدُرر المخبأة في خضم الحدث الآني، يمكن من بعيد، ملاحظة مفارقة غريبة، وهي ان المواجهة العسكرية انقلبت جذرياً لمصلحة الثوار غداة مقتل قائدهم اللواء عبد الفتاح يونس! في ظروف غريبة وملتبسة، أفصح البعض عن جزء من تفاصيلها التنفيذية (استدعاء وتحقيق سريع وقتل ثم إحراق الجثة). لكن الاجزاء الأهم الخاصة بالاسباب لم تُكشف بعد، ولا يبدو انها ستكشف قريباً، حرصاً على وحدة القبائل الليبية المحتشدة في مواجهة القذافي وكتائبه (وقبائله) المقاتلة!

والمسألة مدعاة لتمعن من زاوية أساسية هي جزء من البلاء الشرقي، الذي لم ينتشر رذاذه إلا في إطار الجغرافيا العربية: شخص واحد بيده تحديد مصائر شعوب ودول، وموت وحياة ألوف البشر، وتدمير ثروات وطنية هائلة… الأمر يسري عادة على قادة ورؤساء لكنه في الحالة الليبية سرى على نقيضين في الظاهر (متحالفين في الباطن؟) هما العقيد القذافي من جهة، واللواء يونس من جهة أخرى. وإذا صحّت بعض التسريبات من ان الأخير كان لا يزال مرتبطاً بزعيمه السابق وزميله التاريخي في مجلس قيادة الثورة، وكان يمدّه مسبقاً بمعلومات عن التحركات المضادة له بقيادته! فإن إزاحته من الطريق، قلبت كل معطيات المسرح الميداني وأوصلت الثوار الى قلب العاصمة في زمن قياسي!

شخص واحد (هو القذافي) أمكنه من جهة أن يقود شعباً تعداده بالملايين لعقود طويلة، وأن يُبدّد ثروات بلاده على خبله التنظيري وإرهابه المطّاط من أميركا الجنوبية الى أفريقيا الى معظم أرجاء العالم العربي وبعض أوروبا. وشخص واحد، هو اللواء يونس، أمكنه من جهة ثانية، أن يتسبب بخسائر وأضرار بشرية ومادية ومعنوية هائلة للثورة الليبية ولغيرها من التحركات العربية الراهنة…
انتهى أحدهما في تلك الظروف الغامضة، فيما ينتظر الثاني في ملجأه نهايته شبه المؤكدة في أيام قليلة. والنهايتان تعطيان بلداً بحجم ليبيا وأرضها وثرواتها وشعبها، مجالاً لمستقبل يليق بها وبتضحياتها أخيراً.

السابق
السفير: نـهـايــة الـقــذافـي!
التالي
سينغ: لا مؤشر لاي تغير في الكتيبة الفرنسية