سعيد الهوّاش نحّات من نوع آخر يحوّل الفخاريات إلى منحوتات ناطقة

تعدّدت أوجه النحت في هذه الأيام، كلٌ ينحت وفق أزميله الخاص، وفيما ترجّح كفّة النحت ناحية أزميل السياسة، يصوّب النحات سعيد الهواش أزميله الى حجر التاريخ، ينحته ويصقل به رؤيته لمنحوتاتٍ، غالباً ما تحمل مضامين ذات مغزى وطني، تاريخي، تنتمي إلى روحية هذا النحات الفلسطيني الهوية، والذي تبدو منحوتاته كما الطلاسم التي يصعب فك خيوطها، أو فهم تعابيرها، ولكنك تستمتع في تتبعها، لتتذوّق فنّاً لا يمكن أن تتذوقه كل يوم. فمجاراة النحت التشكيلي، للنحت التعبيري، يولد لوحة ناطقة، بكل ما تحمل الكلمة من حروف، وكل حرف له أبعاد يترجمها هواش بسيكولوجية ذات معنى أيديولوجي، نحتي تصوري للواقع.

يغازل ازميله ومطرقته

والنحت لدى هواش، هو كتلة متنوّعة من الصور الهادفة، "إذ لا يكفي أن نحمل أزميلاً ونطرق به الصخر، بل يفترض أن نحمل اللوحة التي نريد أن نجسّدها في فكرنا، وأن تكون ذات مغزى، كي تخرج تحفة إبداعية" هذا ما يكرّره هواش وهو يغازل أزميله ومطرقته، فتجسّدان سمفونية يؤلف عبرها ألحاناً نحتية خارجة عن مألوفها، فتحاكي تارة الأمومة، وطوراً تشعل فتيل العروبة، وفي كثير منها، تعانق كأسي الحياة المرّة والحلوة،"نَحتُ الأمومة التي تعبت من الترحال، والمرأة المثالية ذات الوجه الجميل والأخر الفاني".

انطلق هواش في نحته منذ الصغر عندما "كنت أراقب والدي أثنـاء نحتـه الحجر والخشب، وأقلّده"،ولكنـه ارتأى أن يمتهن هذا الفن" فدرسته، واخترت النحت الفرعوني لتفرّده لأنّنا نحتاج إلى نحت جديد، ينحت التعابير الجمالية للصخور، فالحجر يكون دون قيمة مرمياً، وحين أمسكه أتخيّل شكله، أسمعه يقول: "انحتني هكذا". لقد تحول الحجر إلى جزء من حياة هواش و"أصبح صديقي، أمضي في حضرته معظم وقتي،يخاطبني وأخاطبه بلغته،الأزميل والمطرقة، فهما هويتي"، لأنه بحسب ما يشير "مهما تطورت أدوات النحت، يبقى الأزميل هوية النحات، لأنّ لا شيء يضاهي جمالية الحفر بالأزميل على الحجر".

واستاذ الفنون التشكيلية سعيد الهواش قادم من بيئة فنية نحتية، من أرض فلسطين، وبين يديه يصبح الصخر ثورة نابضة بعبق الواقع، إذ ترسم منحوتاته جذور التاريخ الحضاري عبر رؤية "بعيدة عن الابتذال، "فحين تجمع الرمل والترابة البيضاء، وتحولها إلى صخرٍ تصنع منه الحياة، فهذا إبداع"، وهذا ما تجد انبعاثاته في كل لوحة نحتية تعبيرية، "فإبداعي نابع من الثورات، فلكلٍ منا طريقته في أن يثور على الواقع، وأنا بدأت ثورتي من الحجر الذي احفره ليكون شاهداً على همجية الواقع بكلّ تركيباته".

رسالات وقضية

يعمـد هوّاش إلى ترميم النحت التشكيلي ضمن معايير جمالية معتمدة منذ مئات السنين، فيصقلها بروحية حديثة، متأنقة بجماليتها المتوازنة، لأن "للنحت دوراً كبيراً في حفظ إرث الحضارات، فالفراعنة رسّخوا حضارتهم بنحتهم الجدران، فالنحات هو أساس وجود الحضارات وحفظها، لتجسّد عملاً تراثياً قديماً "كما يقول، فيما تتجلّى الرؤية، وأنت تتعقب فصل هذا الفن القديم الجديد، في مهجعه الصغير، فالإشارات التي تنبعث من تلك الغرفة تجعل قاصد المكان أكثر رغبة في التعمق،في ثقافة النحت التشكيلي.

إذ هنالك الكثير من الفخاريات الحجرية الكبيرة التي تستوقفك، تذهلك، وتسرق انتباهك "زهرة اللوتس" المنحوتة عند مدخل مهجعه، حيث تفترشه الفخاريات العملاقة الحجرية ذات الألوان القزحية، لتطلّ عليك هياكل الأمومة وانتفاضة المرأة، إلى القطع النحاسية التي تغوص معها في سبر أغوار عالم آخر "كلّه يحمل رسالات وقضايا"، يردف هواش قائلاً:"نحتي يحمل القضية، الحبّ والعشق والأمومة وأيضاً الحياة،كلّها رسمتها بحجارة آتي بها من قلب البحر"، لينحت الفخار بطريقة لا مثيل لها، وبنكهة تحمل نفس هواش "فأنا ابتكرتها،أجمع الحجر الفينيقي القديم جدّاً الذي غرق منذ آلاف السنين، فيستأنس مع الفخّار في صورة تبعث التحايل على الفن ليخرج بقالب غير مألوف،"لأنّنا في واقع كل شيء غير مألوف مرغوب".

ويختلف الحجر في محجر هواش عن أيّ حجر له جماليته التي تسحر المتعطش للذوق "إنه ابتداع فني، عنوانه الرئيس الحزن الذي يفيض من منحوتاته، فيتلّون مع منحوتة الدولفين التي ترصد الأم التي تهرّب بأولادها من الخوف، وطوراً بالشوق والحنين ومعهما الأمل الذي حملته منحوتة الغمرة، فيتولّد الإبداع، وهذا ما يميّزني، "فنحّات الفخاريات الحجرية، والخشبية والنحاسية، "يتذاكى على الواقع عبر أرجوحة الحجر ،"فتارة تجد امرأة، وطوراً فخاراً، وفي مكان آخر أجسد مجزرة غزة بالحجر والخشب معاً".

ووفق تقنية الفن الفرعوني، استطاع هواش أن يجسَد القضية عبر الفن الخالد،لأنّه"لا ينته بل يعيش ملايين السنين، واللوحة عندي صورة عن حياتي أتخيّلها، فالحزن له لونه، وأنا جسدته بعناد الحرية للانكسار، وبمجزرة غزة، وبالحرية الذي يألفها طيف روحي".

النحت يفقد قيمته اليوم

يصمت الحديث، ليرتفع صوت طرطقات الأزميل والشاكوش، رفيقي هواش الذي يقول إنّ "النحت كان حاضراً في ثقافة الرومان، وكان الحجر الناطق باسم الحضارة الفينيقية والرومانية مع زهرة اللوتس، ولكنني أتساءل أين يكمن حضوره اليوم؟". يرمي هواش تساؤلاته على منحوتة فخار بين يديه "للأسف يفقد النحت قيمته اليوم، وإن حضر فإنّ الإبداع لا يدخل فيه، وربما لأنّ الصبر انتفى، فالنحت مرادف للصبر، فمدى الصبر يولّد قوّة الإرادة، فيخرج الإبداع الحجري في العمل". يصمت هواش قليلاً ثمّ يشير "النحت هو رسالة كامنة في داخلنا". يبدو هواش كمن يعبّد الطريق أمام فنّ جديد، بدأ يخطو ناحية الظهور الخجول، كما لو كان ينسج الشعاع الخافت لجمالية صورة "تقف أمامها فترى نفسك داخلها،وهذا ما يجعلها ناطقة" يقول هواش الذي ينصرف إلى إتمام لوحة الحرية "هذه المنحوتة الأثرية التي تروي حكاية سيّدة تحمل أطفالها وتبتعد بهم نحو الحرّية التي تنشدها".

السابق
كوماندوس إسرائيلي يجتاز السياج باتجاه الوزاني
التالي
نشاط مؤسسة عامل الدولية